أسلموا أوّلا، ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثمّ داخلهم الشكّ فيه، فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله، ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية، ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين. بحال جماعة أوقدوا نارا؛ لينتفعوا بها في جلب خير، أو دفع ضرّ، فلمّا أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن جاءها عارض خفيّ، أو أمر سماوي، كمطر شديد، أو ريح عاصف، جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنّى لهم الإبصار بحال.
ثمّ جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمي الذين فقدوا هذه المشاعر والحواسّ، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنّهم فقدوها، فما فائدة السمع إلّا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلّا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان؛ لتتجلّى المعقولات وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلّا النظر والاعتبار؛ لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنّه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة أو يرجع إلى هدى.
ثمّ أراد سبحانه أن ينتقل إلى أسلوب آخر من الأمثال، فقال:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فضرب (١) سبحانه في هذه الآيات مثلا آخر، يشرح به حال المنافقين، ويبيّن فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم؛ زيادة في التنكيل بهم وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم، وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء، فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد، والخوف من ذمّ الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثمّ استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البيّنة والحجج القيّمة، فيعزمون على اتباع الحقّ، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشبهات، فتقيد