للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تعالى في غاية التنزّه والتقدّس، والمستفيض منغمس في العلائق الدنيئة، كالأكل والشرب، وغيرهما، والعوائق الطبيعية، كالأوصاف الذميمة، فالاستفاضة منه إنما تحصل بواسطة ذي جهتين؛ أي: ذي جهة التجرّد، وجهة التعلق، وهو الخليفة أيّا كان، ولذا لم يستنبىء الله سبحانه ملكا، فإن البشر لا يقدر على الاستفادة منه؛ لكونه خلاف جنسه، ألا ترى أن العظم لمّا عجز عن أخذ الغذاء من اللحم؛ لما بينهما من التباعد، جعل الله تعالى بحكمته بينهما الغضروف، والأعصاب المناسب، ليأخذ من اللحم ويعطي العظم، وجعل السلطان الوزير بينه وبين رعيته، إذ هم أقرب إلى قبولهم منه، وجعل المستوقد الحطب اليابس بين النار وبين الحطب الرطب، وحكمة قوله تعالى: {لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أربعة أمور:

الأول: تعليم المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة، ويقال: أعقل الرجال لا يستغني عن مشاورة أولى الألباب، وأفره الدواب لا يستغني عن السوط، وأورع النساء لا تستغني عن الزوج.

والثاني: إظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم، وهو قوله: {أَتَجْعَلُ}. إلخ. وجوابه وهو قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}.

والثالث: تعظيم شأن المجعول، بأن بشر بوجوده سكان ملكوته، ولقّبه بالخليفة قبل خلقه.

والرابع: بيان أن الحكمة تقتضي ما يغلب خيره، فإن ترك الخير الكثير، لأجل الشر القليل، شرّ كثير، كقطع العضو الذي فيه أكلة شرّ قليل، وسلامة جميع البدن، خير كثير، فلو لم يقطع ذلك العضو، سرت تلك الآفة إلى جميع البدن، وأدّت إلى الهلاك الذي هو شرّ كثير.

{قالُوا}؛ أي: قالت الملائكة استكشافا عما خفي عليهم من الحكمة، لا اعتراضا على الله تعالى، ولا طعنا في بني آدم على سبيل الغيبة، وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا، كأنه قيل: فماذا قالت الملائكة حينئذ، فقيل: قالوا: