{فَمِنْهُمْ}؛ أي: فممن يجمع في ذلك اليوم {شَقِيٌّ} وجبت له النار بموجب الوعيد، فهو مستحق للعذاب الأليم، الذي أوعدَ به الكافرون {وَسَعِيدٌ}؛ أي: ومنهم سعيد، وجَبَت له الجنة بمقتضى الوعد، فهو مستحق لما وعد به المتقون من الثواب، والنعيم الدائم، وتقديم الشقي على السعيد؛ لأن المقامَ مقام التحذير والإنذار، والأطفال والمجانين لا يدخلون في هذا التقسيم لعدم التكليف، ويدخل فيه من استوت حَسَناتهم وسيئاتهم من المؤمنين، ومن تغلب سيئاتهم، ويعاقبون عليها إلى حين ثم يدخلون الجنةَ؛ لأنهم فريق السعداءِ باعتبار العاقبة، فالسعداء درجات، والأشقياء دركات، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث، كالأطفال والمجانين.
روى الترمذي وأبو يعلى وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، قلت: يا رسول الله، فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه، قال:"بل على شيء قد فرغ منه، وجَرَتْ به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له". وروي عن علي كرم الله وجهه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في جنازة فأخَذَ عودًا فجعل يَنْكتُ في الأرض، فقال:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وقرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)}.
والمراد أن الله يعلم الغيب، وأنه يعلم المستقبل كلَّه بجميع أجزائه، وأطرافه، ومنه عمل العاملين، وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل، وكتابته للمقادير، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، علَّمنا أنَّ الجزاء بالعمل، وأنَّ كُلًّا ميسر له، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة، أو شقاوة النار، وأنَّ ما وَهَبه من الاستعداد والعزيمة يكون له تأثير في تربية النفس، وتوجيهها إلى ما تعتقد أنَّ فيه سعادتَها وخَيْرُها.
قال في "التبيان"(١): علامة الشقاوة خمسة أشياء: قساوة القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل، وقلة الحياء. وعلامة السعادة خمسة