الأمر الذي أنزل على الملكين؛ أي: ما أُلْهِمَ الملكان، وقُذِفَ في قلوبهما من علم التفرقة، وهو رُقيْةٌ وليس بسحر، قال "المراغي": وظاهر الآية يدلُّ - على أنَّ ما أنزل على الملكين غَيْرُ السحر، لكنه من جنسه، وقد أُلهماه، واهتديا إليه بلا أستاذٍ، ولا معلِّمٍ، وقد يُسمَّى مثل هذا وحيًا، كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}.
وقيل: معطوفٌ على تتلو الشياطين، والمعنى عليه، وكما اتَّبع رؤساء اليهود السحر، كذلك اتَّبعوا ما أنزل على الملكين، وقرىء في الشواذ المَلِكينِ بكسر اللام، قيل: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقيل: عِلْجَان، والقراءة (١) المشهورة بفتح اللام، وهما ملكان من الملائكة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو الأسود الدؤلي، والضحَّاك، وابن أبزي المَلِكين بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران ببابل، واعلم أنَّ الملكيَنِ أنزلا لتعليم السحر امتحانًا من الله تعالى للناس، هل يتعلَّمونه أم لا؟ كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر، فمَنْ تعلَّمه منهم وعَمِلَ به كان كافرًا، ومن تَجنَّبه أو تعلَّمه لا يعمل به، ولكن ليتوقَّاه كان مؤمنًا، كما قيل:
عَرَفْتُ الشَرَّ لا للشَّرِّ ولكن لِتوَقِّيه
وهذا كما إذا أتى عرَّافًا فسأله عن شيء؛ لِيَمْتَحِن حالَه؛ ويختبر باطنَ ما عنده، وعنده ما يَميِّزُ بهِ صدقُه من كذبه، فهذا جائزٌ. قال الإِمام فخر الدين الرازيُّ: كانت الحكمة في إنزالهما: أنَّ السَّحرة كانوا يسترقُون السمعَ من الشياطين، ويُلقون ما سمعوا بين الخلق، وكانوا بسببِ ذلك يُثْبِتُون لأنفسهم الوَحْي النازلَ، على الأنبياء، فأَنْزلَهما إلى الأرضِ ليعلِّما الناسَ كيفيةَ السحر، ليظهر بذلك الفَرْقُ بين لام الله، وكلام السحرة؛ لئلا يغترَّ الناس بالسحر؛ لأنَّ السحرةَ كثرُوا في ذلك الزمن، واستنبطوا أبوابًا - غريبةً من السحر، وكانوا يدَّعون النبوة، فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلِّما الناس أبواب السحر، حتّى يتمكنوا