المقصود من بنائه صار كأنه هُدِّم وخُرِّب، أو لم يُبْنَ من أصله، فإنَّ عمارة المسجد كما تكون ببنائه، وإصلاحه، تكون أيضًا بحضوره، ولزومه، يقال: فلان يعمر مسجد فلانٍ، إذا كان يحضره ويلزمه، ويقال لسكان السموات من الملائكة: عُمَّارها. وفي الحديث: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان" وذلك لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فجعل حضور المساجد عمارةً لها، وعن عليٍّ - رضي الله عنه - (سِتٌّ من المروءة: ثلاثٌ في الحضر، وثلاثٌ في السفر، فأما اللَّاتي في الحضر فتلاوة كتاب الله، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الإخوان في الله، وأمَّا اللاتي في السفر فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح في غير معاصي الله). وعدَّ من علامات الساعة: تطويل المنارات، وتنقيش المساجد، وتزيينها، وتخريبها عن ذكر الله تعالى، فتعطيل المساجد عن الصلاة والتلاوة، وإظهار شعائر الإِسلام، أقبح سيئةٍ لا سيَّما إذا اقترن بفتح أبواب بيوت الخمر، وإغلاق أبواب المكاتب، وغير ذلك، ولقد شوهد في أكثر البلاد الروميَّة، وغيرها في هذا الزمان، فلنبك على غربة الدين أيها الإخوان، فيا لها مصيبةً، أيَّ مصيبة؟! إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
فإن قلت: إنّ هذه الآية تقتضي: أنَّ من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، لا يساويه أحدٌ في الظلم، فهي تعارض مع قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ومع قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} المقتضي كُلُّ آيةٍ منها بأنّه لا أحد أظلم ممن ذكر فيها؟
قلت: إنّ معنى المفاضلة في كل منها يعتبر بالنظر إلى صلته، فكأنَّه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبًا، ولا أحد من الكذابين أظلم ممن كذب على الله سبحانه وتعالى، وهكذا كُلُّ ما جاء من أمثالها، وقد يجاب عنه بأجوبة أخرى، فليرجع إليها في المطولات.