وبقوا على عاداتهم ورسومهم، صارفين هممهم إلى توسيع دائرة العمارة واليسار، آخذين فى أسباب بقاء ملكهم، حتى دبّت فيهم عقارب الحسد، وجرت بينهم مياه الضغائن، وأثّر فى قلوبهم حبّ الطمع والتعالى، فأبطل كل ما أحكم الآخر ونقض ما أبرمه، فتفرّقت كلمتهم، ونقضت عهودهم، وساءت سيرتهم، وصاروا أحزابا، رأس كل فريق صاحب غاية ذاتية، يفضلها على المنفعة الحقيقية، التى هى المنفعة العامة، من حفظ الحقوق، ورعاية الواجبات، واتباع الشرائع، والسير مع حدود الشرع والقانون المعتبر، واقتفاء أثر الملوك السالفين، فيما سنّوا من طريقة كانت سببا لعلوّ شأنهم، وانتشار صيتهم، وخوف من جاورهم من الملوك منهم، والاحتماء بحماهم.
فلتفضيلهم الذاتيات على الحقائق، وانحرافهم عن طرق الاستقامة، انكسف نور سعادتهم وتورطوا فى أوحال شقائهم، وهوت بهم رياح الجهالة، فأصبحوا بلا عدّة تحفظهم، ولا قوة تمنعهم، ولا قانون يردعهم، فطمع فى ملكهم من كان يفزع من اسمهم، وتطلع إلى ابتلاعهم من كان يموت من هيبتهم، فدسّوا الدسائس فى عصبياتهم، وأشعلوا نار الفتن فى رؤوسهم، فبغى بعضهم على بعض، وثارت بينهم الحروب المتفاقمة، وتقاتلوا فى حارات القاهرة وضواحيها. وعمّ الفساد فى البلاد، قاصيها ودانيها، فحرموا اللذات، وساءت بعد الحسن منهم الحالات.
ولم يزالوا على ذلك؛ إن هدأوا عاما قاموا أعواما، حتى عمّ الضرر جميع القطر، وحاق بأهله ما لا يوصف من الفقر والضرّ، وتوالت الغلوات والأمراض، وتعاقب الوباء، وأهمل أمر الرى وتوزيع المياه، فطمت الترع والخلجان، فلم تصل المياه إلى المزارع، وخيفت السبل، وسلب الأمن، وبلغ الغاية فى الشدة زمن السلطان فرج، فذهبت ثروة البلاد بالكلية، فهاجر الكثير من سكان القطر إلى الشام والحجاز والمغرب وغيرها، وتركوا دورهم، ومستقرهم، فعادت مساكن بوم وغربان، بعد أن كانت رياض أنس ومراتع غزلان، وآلت إلى ما ترى فى أنحاء القطر من الكيمان، ولم يقدر من أتى بعدهم على إرجاعها لأصلها، بل لا يستطيع نقلها من مكانها، لما سيتلى عليك بعد.