ولما رأى أهل الإسكندرية ذلك ونفاسته تركوا ما كانوا عليه من الأوضاع القديمة؛ وذلك أن جميع أبنية القطر كانت بأوضاع وهيآت غير ما هى عليه الآن، فكانت المنازل العظيمة مشتملة على دور أرضى، وفوقه دور أو دوران ببناء بارز عن سمت الدور الأرضى بمقادير مختلفة من ذراع إلى ثلاثة أذرع، ولها متكآت ودعائم من الأحجار والأخشاب، ولا يجعلون فيها شبابيك ولا يستعملون القزاز؛ لقلة وجوده فى الديار المصرية حينئذ بسبب قلة توارد البضائع الخارجية فى تلك الأزمان، وإنما يجعلون فيها مشربيات من الخرط، ثابتة فى البنيان، ذات خروق ما بين صغيرة وكبيرة، وبتلك المشربيات طاقات صغيرة مطلة على الحارات، لها أبواب من الخشب تقفل وتفتح على حسب الحاجة، وكانوا يتنافسون فى ذلك ويصرفون فيه مصاريف جسيمة، ومنهم من ينقشها نقشا نفيسا مع أنها كانت لا تقى من الحر ولا من البرد ولا من الأتربة، بل كانت فى الصيف عرضة للرياح الحارة والأتربة الثائرة، وفى الشتاء عرضة للبرد والمطر، وربما ألصقوا بتلك المشربيات فى زمن الشتاء أوراقا فيتسبب عن ذلك امتناع الهواء عن المرور فى المساكن، فتتولد من احتباسه عفونات ربما أضرت بأبدانهم وأبصارهم، خصوصا/الفقراء الذين لا اعتناء لهم بشأن النظافة.
ومع أن هذه الأوضاع الجديدة، ربما كانت مع نفاستها وجلبها لأسباب الصحة أقل كلفة ومصرفا من تلك الأوضاع القديمة، فلذلك تجد أبنية إسكندرية الآن، وغيرها من جميع مدن القطر، غالبها من الأوضاع الجديدة تضاهى الأوضاع الأورباوية، بصور حسنة، وشوارع معتدلة متسعة، محفوفة من الجانبين بشبابيك القزاز وغيرها.