لما انقرضت دولة المماليك، بموت السلطان الغورى، ثم السلطان طومان باى، واستولت على مصر الدولة العلية العثمانية، كانت القاهرة - مع ما كان قد أصابها من التغير والحوادث - على جانب من الاتساع والعمارة، بسبب أنها كانت عاصمة مملكة عظيمة، تمتد أطرافها إلى الجهات الشامية، والأقطار الحجازية، وجزء عظيم من بلاد سواحل البحر الأحمر كمصوع وسواكن، وجميع بلاد النوبة، وبرقة على البحر المتوسط، فكانت المتاجر ترد إليها من كل جهة، وتصدر عنها إلى جهات كثيرة، وكذلك الصنائع والعلوم، وذلك من دولة الفاطميين، إلى آخر دولة المماليك. ولم تعقها الفتن والحوادث المهمة عن الاتساع والتقدم، بل كان ما يتخرب بالفتن ونحوها يتعوض، فكانت العمائر فى تلك الأزمان من ضواحى المطرية ومنية الشيرج، إلى دير الطين، ومن شاطئ النيل إلى الصحراء، كما سبق بيانه.
فلما زال عنها الاستقلال، وتوالى عليها محن كان بها الاضطراب والفتن والاختلال، وأورثها ذلك نقصا فى عزّها، ووهنا فى ثروتها، وسرى هذا الحال إلى باقى بلاد القطر بسوء تصرف العمال، وسير كل منهم على حسب ما سولت له نفسه، فكان كل ذى صولة يجد فى تحصيل أطماعه، من غير التفات إلى ما به عمارة البلاد وسعادة الأهالى.
ومن كثرة الحروب، وتعاقب الأهوال لم يتمكن الفلاحون من زراعة الأرض، ولا من أعمال الطرق التى بها ريّها؛ من إحكام الترع والقناطر والجسور، فكانت الأرض تارة تبور، وتارة تظمأ، وفسد كثير منها، فصار غير صالح للزرع، وبسبب ذلك كثر الغلاء، والقحط والوباء، والأمراض، وانتقل كثير من سكان العاصمة وغيرها.
ولتعاقب ذلك بحيث لا تمضى أربع سنين أو خمسة، إلا بشئ من تلك الأهوال، تخرّب جزء عظيم من العاصمة، ومن مدن الأرياف.