وكان القصر له مجلس يشرف منه ابن طولون يوم العرض ويوم الصدقة لينظر من أعلاه من يدخل ويخرج، وكانت صدقاته على أهل المسكنة والستر وعلى الضعفاء والفقراء وأهل التجمل متواترة، وكان راتبه لذلك فى كل شهر ألفى دينار، سوى ما يطرأ عليه من النذور وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التى أقيمت فى كل يوم للصدقات فى داره وغيرها. وكان ينادى من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر، وتفتح الأبواب ويدخل الناس الميدان، وابن طولون فى المجلس الذى تقدم ذكره ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرة إبراهيم بن قراطفان - وكان على صدقاته: أيّد الله الأمير إنّا نقف فى المواضع التى نفرق فيها الصدقة فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا والمعصم الرائع فيه الحديدة والكف فيها الخاتم، فقال: يا هذا كل من مدّ يده إليك فأعطه، فهذه هى اللطيفة المستورة التى ذكرها الله ﷾ فى كتابه فقال:«يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ»، فاحذر أن تردّ يدا امتدت إليك، وأعط كل من يطلب منك.
[بستان خمارويه بن أحمد بن طولون]
فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه وزاد فيه، وأخذ الميدان الذى كان لأبيه فجعله كله بستانا وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، ونقل إليه الودىّ اللطيف الذى ينال ثمره القائم، ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب، وأنواع الورد، وزرع فيه الزعفران.
وكسا أجسام النخل نحاسا مذهبا حسن الصنعة، وجعل بين النحاس وأجساد النخل مزاريب الرصاص، وأجرى فيه الماء المدبر فكان يخرج من تضاعيف قائم النخل عيون الماء، فتنحدر إلى فساق معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقى سائر البستان، وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستانى بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النيلوفر الأحمر والأزرق والأصفر، والجنوى العجيب.
وأهدى إليه من خراسان وغيرها كل أصل عجيب، وطعّموا له الشجر المشمش باللوز، وأشباه ذلك من كل ما يستطرف ويستحسن.
وبنى فيه برجا من خشب الساج المنقوش بالنقر النافذ ليقوم مقام الأقفاص، وزوّقه بأصناف الأصباغ، وبلّط أرضه، وجعل فى تضاعيفه أنهارا لطافا، جداولها يجرى فيها