وأما السيد أحمد المحروقى فهو-كما فى الجبرتى أيضا-عين الأعيان ونادرة الزمان- -شاه بندر التجار-والمرتقى بهمته إلى سنام الفخار، النبيه النجيب، والحسيب النسيب السيد أحمد بن السيد أحمد الشهير بالمحروقى الحريرى. كان والده حريريا بسوق العنبريين بمصر، وكان رجلا صالحا، منور الشيبة، معروفا بصدق اللهجة والديانة والأمانة بين أقرانه، وولد له المترجم فكان يدعو له كثيرا فى صلاته وسائر تحركاته، فلما ترعرع خالط الناس وكتب وحسب، وكان فى غاية الحذق والنباهة، وأخذ وأعطى، وباع واشترى وشارك، وتداخل مع التجار، وحاسب على الألوف، واتحد بالسيد أحمد بن عبد السلام، وسافر معه إلى الحجاز وأحبه وامتزج به امتزاجا كليا، ومات عمدة التجار العرائشى أخو الشيخ أحمد بن عبد السلام، وهو بالحجاز فى تلك السنة، فأحرز مخلفاته وأمواله ودفاتره، وتقيد المترجم بمحاسبة التجار والشركاء والوكلاء ومحاققتهم، فوفر عليه لكوكا من الأموال، واستأنف الشركات والمعاوضات وعد ذلك من سعادة مقدم المترجم ومرافقته له، ورجع صحبته إلى مصر، وزادت محبته له ورغبته فيه، وكان لابن عبد السلام شهرة ووصله بأكابر الأمراء كأبيه، وخصوصا مراد بيك، فكان يقضى له ولأمرائه لوازمهم، وكان ينوب عنه المترجم فى غالب أوقاته.
ولشدة امتزاج الطبيعة بينهما صار يحاكيه فى ألفاظه واصطلاحاته، فاشتهر ذكره بسببه عند التجار والأمراء، واتحد بمحمد أغا البارودى-كتخدا مراد بيك-اتحادا زائدا فراج به عند مخدومه شأنهما، وارتفع به قدرهما. ولما تأمر اسماعيل بيك واستوزر البارودى، استمر حالهما كذلك إلى أن حصل الطاعون ومات به السيد أحمد بن عبد السلام، فاستقر المترجم فى مظهره ومنصبه شاه بندر التجار بواسطة البارودى، وسكن داره العظيمة التى عمرها بجوار الفحامين محل دكة الحسبة القديم، وتزوج بزوجاته، واستولى على حواصله ومخازنه، واستقل بها من غير شريك ولا وارث. فعند ذلك زادت شهرته ونفذت كلمته على أقرانه ولم يزل طالعه يسمو وسعده ينمو، إلى أن عاد مراد بيك والأمراء المصريون بعد موت اسماعيل بيك إلى إمارة مصر، فاختص بخدمته وخدمة إبراهيم بيك وباقى الأمراء، وقدم لهم الهدايا وواسى الجميع بحسن الصنع حتى جذب إليه قلوبهم ونافس الرجال، وانعطفت إليه الآمال، وعامل تجار النواحى والأمصار من سائر الجهات، وراسلوه وأودعوا عنده الودائع.