وليس الغرض الآن تفاصيل تلك الحوادث، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بما أسهب به العلامة الجبرتى وغيره فى هذا الشأن، وإنما القصد ذكر بعض مهمات الحوادث، ليعلم القارئ كيف كانت سياسة العمال للرعايا، ليعرف أسباب العمارة والدمار.
***
[دخول العساكر العثمانية أرض مصر]
وأول حادثة تستحق الذكر هى حادثة دخول العساكر العثمانية فى مصر بعد موت السلطان الغورى، وذلك أنه لما تولى المملكة السلطان طومان باى، والفتن قائمة بين مصر والدولة العلية، لم يقم غير قليل، وحضرت العساكر العثمانية سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، واشتعلت نيران الحرب بينهم وبين عساكر طومان باى، فكانت فى جهة العباسية، ثم صارت فى بولاق، ثم جهة القصر العالى وباب اللوق وجهة السيدة زينب ﵂، وفى مصر العتيقة والصليبة، وقره ميدان والرميلة وحدرة البقر، فتخرب لذلك كثير من المساكن والقصور الفاخرة، والبساتين النضرة، وجامع شيخون، وجامع طولون، وعدة جوامع، ومساجد وزوايا. وصارت القتلى مطروحة فى الطرقات والشوارع والحارات، من العباسية إلى بولاق، إلى مصر العتيقة، إلى الصليبة، إلى القلعة.
ولم تخمد نيران الحرب إلا بعد هروب طومان باى، وكانت مدتها أربعة أيام، قتل فيها نحو من عشرة آلاف نفس.
ولما تم الأمر للعثمانيين، واستولوا على مصر، أخذوا يفتشون على أمراء الجراكسة، فكل من وجدوه منهم قتلوه، ونهبوا منزله، حتى فنيت عدة من أمراء البلد، وتخربت منازلهم، ومكث السلطان سليم بالديار المصرية ثمانية شهور يرتب أمورها، ويمهد قواعدها، ثم رحل عنها إلى القسطنطينية بغنائم كثيرة، وعدد عديد من أرباب الصنائع وغيرهم.
واستصحب معه أيضا المتوكل على الله العباسى، الذى كان خليفة بمصر حينذاك، بعد أن استنزله عن الخلافة فخلع نفسه منها، وتنازل عن حقوقها، وفوّض أمورها إلى السلاطين من آل عثمان.
وأبقى السلطان ما كان مقررا للحرمين الشريفين والمساجد والأضرحة والأرامل والأيتام والفقراء، وغيرهم من الأوقاف والأرزاق والخيرات، بل زاد فى ذلك، ورخّص باستخدام من بقى من المماليك، وقرّر من القوانين والنظامات ما رأى أنه يترتب عليه استمرار التبعية للسلطنة، واستقرار الأمن والراحة والرفاهية للرعية لو بقى ذلك مرعى الإجراء.