ولم يمض غير قليل، حتى استولى إسماعيل باشا على بلاد سنار - التى هى بلاد الزنج - واستحصل على تبر وعبيد، ولكن وقع الوباء فى العسكر المصرى حتى أفنى جملة، فاستأذن أباه فى العودة إلى مصر فماطله، فتوجه إلى شندى، وطلب من أميرها النمر بعض المطاليب، وأخذ بعض العسكر فى العسف بتلك الجهة على عادتهم فى تلك الأوقات، فضجرت الأهالى، ودبر النمر وقومه عليهم مكيدة لتلفهم، وذلك أنه أنهى إلى إسماعيل باشا أن أهل البلد يرغبون فى إعمال زينة للأمير، فرحا بحلوله بلدهم، ودعاه إلى الدخول إليها، فرضى، ودخلها، وأنزلوه منزلا كان قد أعد له، وجعلوا حوالى المنزل تبنا كثيرا، وقالوا: إنه للزوم المواشى والحيوانات. فلما أخذ الناس مضاجعهم أوقدوا النار بالمنزل وما حوله، فاحترق بمن فيه، الباشا ومن معه، ونجا محمد بيك الدفتردار.
وكان الإذن وصل إلى اسماعيل باشا بالعود وهو بشندى، فسبقه الأجل، فتجرّد الدفتردار لأخذ ثأره، فقتل منهم نحوا من عشرة آلاف نفس، ولم يزل الباشا يمدهم من مصر بالقواد والعساكر، حتى دخل كافة السودان فى حوزته، وجعل مدينة الخرطوم محل كرسى حكومة تلك البلاد، وعرفت من ذلك الوقت بحكمدارية السودان.
[مبدأ ترتيب العساكر المنتظمة، وإنشاء الأساطيل والمدارس وغير ذلك]
ورأى الباشا أولا أن يرتب من العبيد عسكرا منتظما، إلا أنه عدل عن ذلك فيما بعد، واجتهد فى تنظيم عسكر بعضه من المماليك، وبعضه من شبان الأهالى، والبعض من العبيد فجمعهم وأمر عليهم ولده إبراهيم باشا، وأرسلهم إلى أسوان، ليبعدوا عن أعين الناس، وعين لهم اثنين من مهرة المعلمين الفرنساوية، ليعلموهم التعليمات والحركات العسكرية، الأوروباوية، أحدهما يسمى مرى، والثانى يسمى سيف، ترقى بعد ذلك ودخل فى الإسلام، وعرف بسليمان باشا الفرنساوى، فأخذ فى تمرين العسكر وتعليمهم، حتى نجح مراد الباشا.
وكان الناس، وخصوصا الأرنؤود، يظنون أن هذا المشروع لا ينجح، لا سيما إذا أخذ الباشا من شبان مصر، فخوّفوه على ملكه الجديد، وهو لم يكترث بلومهم، ولم ينزعج بتخويفهم، واستمر على عزمه، حتى تم له ما أراد، ودخلت العساكر مصر، بعد سنتين على هيئة لم تكن تتصور، يقدهم الترنيبتات، وهم فى غاية الانتظام، فكمدت نفوس عسكر الأرنؤود، لتحققهم أن القطر صار فى غنى عنهم، وكانوا يظنون أن وجودهم فيه من