[[استتباب الأمر وتعمير القاهرة على يدى بدر الجمالى]]
وكانت مدة هذا الغلاء سبع سنين، وفارق كثير من الناس البلد، وخرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع، وظاهر مصر مما يلى القرافة إلى بركة الحبش، وانتشرت الفتن بكافة أنحاء القطر، وملكت عرب لوانة الريف، وصار الصعيد بأيدى العبيد، فكتب الخليفة المستنصر إلى أمير الجيوش أبى النجم بدر الجمالى نائب عكا وقتئذ يستدعيه، ليكون القائم بتدبير دولته، فحضر من البحر بعسكر جرّار، وسار حتى دخل القاهرة، وقبض على الأمراء وقتلهم، وأقام مقامهم سواهم من رجاله، وتتّبع المفسدين فى كل جهة من جهات مصر من الأقاليم البحرية والقبلية من العرب وغيرهم، حتى أفناهم عن آخرهم، واستصفى أموالهم، فاستقامت الأحوال، واستتبت له الأمور، وأراح الفلاحين من الأموال ثلاث سنين، حتى صلحت أحوالهم، وحسنت حال مصر والقاهرة.
ولما سكن أمير الجيوش بدر الجمالى القاهرة، وجدها غير عامرة، فأمر الناس من العسكر والأرمن وغيرها أن يعمر كل من وصلت قدرته إلى عمارة ما شاء فى القاهرة من أنقاض ما تخرب من الفسطاط، فأخذوا فى نقل أنقاض ظاهر مصر، مما يلى القاهرة، حيث العسكر والقطائع، فصار محلها فضاء وتلالا بين مصر والقاهرة، وكذا بينهما وبين القرافة، وأكثر الناس من عمارة الدور وغيرها فى القاهرة وسكنوها، واتسعت دائرة العمارة، وسكنها أصحاب السلطان إلى انقراض الدولة الفاطمية.
وإلى ذلك الوقت كان البر الغربى للخليج خاليا من البناء البتة، وكانت بركة الأزبكية بعضها بستان وبعضها بركة فى بحريّه، ودثرت فى الشدة العظمى، ثم بنت طائفة من العبيد حارة فى بر الخليج الغربى تجاه اللؤلؤة، عرفت بحارة اللصوص سكنها العبيد من طوائف العسكر وغيرهم، وهجرت بركة الأزبكية وصارت موحشة، بعد أن كانت من أجلّ المنتزهات، وكثرت المبانى خلف السور من الجهات الثلاث، القبلية والشرقية والبحرية، فبنى الوزير بدر الجمالى أمير الجيوش عليها سورا جديدا يدور بها، والأبواب الثلاثة الموجودة الآن، وهى أبواب: باب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة، كلها من إنشاء أمير الجيوش المذكور، وكانت فى ذلك السور، وصارت مساحة القاهرة أربعمائة فدان، بعد أن كانت عند وضعها ثلثمائة وأربعين فدانا كما قدمنا. وما حدث من البناء بين السورين القديم والجديد سمّى بين السورين.
وفى وزارة أمير الجيوش بنيت دار المظفر، وصارت دار وزارة، وسكنها أمير الجيوش فى أيام وزارته، ومن بعده صارت إلى برجوان، ثم هى الآن جملة بيوت وحارات. وقد بيّنا كلا فى محله من هذا الكتاب.