الحبش لمطعم الطيور والجوارح، اختار أن يحفر خليجا من بحر النيل لتمر فيه المراكب إلى ناحية سرياقوس، لحمل ما يحتاج إليه من الغلال وغيرها، فأمر بالكشف عن عمل ذلك وحفر الخليج، وأنهى الحفر فى سلخ جمادى الآخرة على رأس شهرين، وجرى الماء فيه عند زيادة النيل، فأنشأ الناس عليه عدة سواق، وجرت فيه السفن، فسرّ السلطان بذلك، وحصل للناس رفق، وقويت رغبتهم فيه، فاشتروا جملة أراض من بيت المال، غرست فيها الأشجار، وصارت بساتين جليلة، وأخذ الناس فى العمارة على حافتى الخليج - فيما بين المقس وساحل النيل ببولاق.
وكثرت العمائر على الخليج، حتى اتصلت من أوله بموردة البلاط إلى حيث يصير فى الخليج الكبير بأرض الطبالة، وإلى سرياقوس. وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج، وتنافس الناس فى السكنى هناك، وأنشأ الحمامات والمساجد والأسواق. وصار هذا الخليج مواطن أفراح، ومنازل لهو، ومغنى صبابات، وملعب أتراب، ومحل أنس وقصف، فيما يمر فيه من المراكب، وفيما عليه من الدور. وما برحت مراكب النزهة تمر فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو، إلى أن منعت المراكب منه بعد قتل الأشرف.
وكان أوله عند قرب قنطرة السد الجارى عليها المرور إلى قصر العينى، فيسير قليلا فى الأرض إلى هناك، منعطفا إلى جهة الغرب، حتى يتصل بشارع مصر العتيقة المار أمام سراى الإسماعيلية والقصر العالى، فيمتد على حافته الشرقية مبحرا إلى أن يفارق الجسر الممتد إلى السلطان أبى العلاء وبولاق، فيكون فى غربى البستان الذى كان فى ملك المرحومة زينب خانم، ثم يكون عند أولاد عنان، فينعطف ويسير إلى أن يتلاقى مع الخليج الكبير بقرب جامع الظاهر - وللآن منه قطعة باقية خلف المنازل وفوقها قنطرة البكرية المعروفة بالقنطرة الجديدة، والتلال الكبيرة التى كانت بطوله، من ابتدائه إلى منتهاه، هى أثر العمارات التى دمرتها الحوادث، وتقدم بعض ذلك.
[امتداد العمران أيام الملك الناصر]
وفى أيام الملك الناصر أخذت العمارة فى الازدياد فى جميع أطراف القاهرة وداخلها، وتنافس الناس فيها، وكان النيل قد انحسر عن جانب المقس الغربى، وصار هنالك رمال متصلة من بحريّها بجزيرة الفيل ومن قبليّها بأراضى اللوق، ففتح بها الناس باب العمارة، فعمروا فى تلك الرمال المواضع، وهى الجهة التى تعرف اليوم ببولاق، وأنشأوا بجزيرة الفيل البساتين والقصور، حتى لم يبق منها مكان بغير عمارة، وحكر ما كان منها وقفا على مدرسة