[بيان ما كانت عليه القاهرة عند تولى العائلة المحمدية]
من أمعن النظر فيما كتبناه، وتأمل فيما سطرناه، علم أن الفاطميين، ما قصدوا بوضع القاهرة إلا جعلها معقلا لعساكرهم، ومقرا لخلفائهم، فلذا سوّروها بالسور، وجعلوا لها الأبواب المنيعة، واشترطوا للمرور بها شروطا، ولم يبيحوا سكناها لكل أحد، كما هو شأن الحصون.
ولم يحصل التهاون فى ذلك إلا آخر مدتهم، فسكنها بعض الناس، وبنوا فى رحابها، وكانت عاصمة الحكومة مدينة الفسطاط.
ولما زالت دولة الفاطميين بالأكراد الأيوبية، أباحوا سكناها لكل أحد، وأخذ رجال الدولة يغرسون حولها البساتين، ويبنون بها القصور للنزهة وتغيير الهواء، كما هو الآن فى مبانى جهة شبرا وغيرها.
ثم بتقادم الزمان، وازدياد الثروة بنى الناس فى الفضاء، وفى أرض تلك البساتين، وعلى ما تخلف من النيل فى الأراضى، وحول البرك المتخلفة عنه، وتجددت الأسواق والدروب، فاتسعت المدينة باتصال تلك المبانى بها، حتى كان زمن الناصر محمد بن قلاوون، فأخذت فيه العمارة غايتها، وبلغت البلد فى السعة نهايتها، لكونه كان مشغوفا بالأبنية، فحذا الناس حذوه، وجدّدوا المبانى العظيمة، لا سيما عند ما حفر الخليج الناصرى، فان الناس أكثروا من المبانى على حافتيه. كما نوّهنا بذلك فيما تقدم، وفصّل فى محله. فكانت المدينة فى زمانه يجدها من الشرق الجبل ذاهبا إلى المطرية مبحرا، وإلى الأثر مقبلا، وكثرت البساتين حولها، وعملت الميادين بمنية الشيرج وشبرا، كما أسلفناه.
ولم تزد المدينة من بعده، وإنما كانت تنتقل هيئتها، فتعمّر هذه الجهة أكثر من غيرها مرة، وبالعكس أخزى على حكم مقتضيات الحوادث. ثم ألمت بها الكوارث فى زمن الغز حتى تخربت أبنيتها، وانكمشت عمارتها، كما بيّنا.