وقسّمت القاهرة - كالفسطاط - إلى أثمان وأخطاط، وكل خط يحتوى على شوارع، والشوارع بها دروب وحارات وعطف، وأغلب الحارات والعطف غير نافذ إلا إلى الدرب، فكان المتأمل يراها كعدة قرى متلاصقة.
وكانت البلد إلى زمن الفرنساوية عليها البوابات موضوعة على الدروب والحارات. والعطف منها العمومية، ومنها الخصوصية. وكل بوابة تغلق عند العشاء، وينام خلفها بواب بأجرة من أهلها، أى من أهل تلك الحارة، ولا يتأخر أحد بعد العشاء خارج الحارة إلا لضرورة، مع تنبيهه على البواب حتى يفتح له إذا حضر.
وكان أهل البلد لكثرة الحوادث، وانتشار اللصوص، يبالغون فى متانة الأبواب والمحافظة على البيوت والحارات، فيصفحون الأبواب بصفائح الحديد، ويسمرونها بالمسامير الكبيرة، ويفرطحون رؤوسها، ويجعلون بأكتاف الباب السلاسل المتينة، ويجعلون للباب الضبة والضبتين فى الخارج والداخل، ويزيدون من الداخل الترباس، وهو خشبة طويلة، ينقرون لها بالحائط نقرا تبيت فيه، فإذا جاء الليل أو خيف أمر سحبوها من مقرها بواسطة حلقة فى طرفها، فتأخذ فى عرض الباب أو آخره، وربما يبيتونها فى نقر من جهة عقب الباب. وكانوا يتفننون فى الحيل لمنع الضبة من الفتح بعمل الدواسيس وشق المفاتيح ووضع السواقط، كما أدركنا أكثره، وبعضه موجود للآن.
ولم يكن لظاهر البيوت رونق، بل كانت الهمم مصروفة لرونقة الداخل منها، خصوصا بيوت الحرم، والحيشان والاصطبلات. وكل إنسان له فى ذلك اعتناء، على قدر حاله.
وكانت العادة أن يكون البيت ذا طبقتين؛ السفلى تحتوى على الحواصل والإصطبلات والبئر أو الساقية، والطاحون غالبا، والمنظرة، والعليا تحتوى على المقعد وتوابعه من التنها، ومحل القهوة، وتحتوى على القاعات والفسحات، والحمامات والمطابخ. وربما كان المطبخ بالطبقة السفلى، وله سلم يوصل إليها من الطبقة العليا، غير المعتاد أو هو المعتاد.
وكانوا يعتنون بتوسعة الفسحات والقاعات ويفرشونها بالرخام الملون على هيئات جميلة، ويجعلون من القطع الصغيرة من الرخام أشكالا باهرة، ويجعلون على الحوائط قطع القيشانى الباهرة على أشكال فائقة، ويجعلون لها المشربيات البديعة المصنوعة بصناعة الخرط على رسوم وكتابة وأشكال حيوانات بدون تسمير المسامير. وفوق تلك المشربيات الشبابيك المصنوعة من الحبس المفرغ، على أشكال عجيبة، موضوع فى التفاريغ الزجاج الملون، فينشأ من ذلك صور بديعة، تأخذ بالأبصار وتشرح الخواطر.