وبالتأمل فى أوضاع البناء يرى أن همة الواضع لم تكن متجهة نحو التناسب، أو تصرّف الهواء، بل كانت الهمة فى البناء حيثما اتفق، فيجعل مكانا أرفع ومكانا أسفل، وآخر منيرا وآخر مظلما، والبعض واسع جدا والبعض ضيق جدا، وترى القاعة التى يعجز الواصف عن حصر رونقها، منزوية داخل دهليز مظلم، فيتبين أن البنائين فى الأزمنة المتأخرة لم يكن لهم علم فى الأوضاع، بل يقلدون من تقدمهم، صادفوا الصواب أو خالفوه.
ومع تأخر صناعة البناء بنى الأمراء المنازل الواسعة، والمساجد العجيبة، والبيوت.
وكان كل أمير يبلغ فى السعة على قدر حشمه وأتباعه، ويجعل فى دائرة البيت الدكاكين، والحياض وغالب لوازم المنزل، مثل بيت الشرقاوى فإنه كان يبلغ أربعة أفدنة - نحوا من سبعة عشر ألف متر مربعة. وكثيرا ما تجد مثله وأوسع بجهة سوق السلاح وسويقة العزة، وجهة عابدين، مما صار الآن حيشانا، تسكنها رعاع الناس، وغالب الحيشان أصلها بيوت فاخرة، دمرتها الحوادث.
وأما الحارات، فكانت كثيرة الانعطافات، ضيقة المسالك، ليست على هيئة انتظامية، بل بعض البيوت بارز فى الطريق، والبعض داخل عنه، وهذا من أسفل، وأما الأعلى فكانت بعض المشربيات تتلاصق من جوانبها، وتتلاقى مع ما واجهها، حتى تحدث ساباطا مركبا على جميع الطريق، فضلا عن الأسبطة الحقيقية.
ومن حدثت عنده عمارة ورأى أمام منزله فضاء أدخل منه فى المنزل ما أحب بلا ممانع.
وكذا الشوارع، لا تزيد على الحارات فى السعة إلا قليلا، فكان إذا تلاقى جملان تعسر المرور، وسدّ الطريق، اللهم إلا فى بعض أماكن قليلة.
وكان للبلد بوابات تقفل بالليل، ويقف عليها الحرس. ولم يكن للحكومة اعتناء بأمر النظافة أو الصحة، فكانت القاذورات تلقى بجوانب الحارات، وعلى أبواب الأزقة، وتحت الأسبطة، وما نشأ من الهدم من الأتربة إن اعتنى به ألقى على باب المدينة، فيصير تلالا، فاذا نسفتها الرياح تكوّن منها فوق البلد سحابة تراب كريه الرائحة متعفن الشم، فتتسع دائرة الأمراض، فأين توجهت فى البلد ترى مجذوما أو أبرص أو مجدرا أو أعمى، أو من اجتمع فيه كل هذه الأمراض أو أغلبها. وذلك لأن البلدة كانت محاطة بالتلال، ضيقة المسالك، مرتفعة البناء على غير انتظام، قذرة الحارات فلا تتمكن الشمس من تحليل الرطوبات، ولا الريح من نسفها، فتتصاعد على من بالمساكن فتحدث الأمراض كالحكّة والجرب، وسائر الأمراض الجلدية.