الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فلما كانت مدينة القاهرة المعزية، التى هى دار الحكومة الخديوية، قد كثر ذكرها فى كتب الخطط والتواريخ والسير، ووصف ما كان بها من المبانى والبساتين، وهى الآن غيرها فى تلك الأزمان، لتغيرها عما كانت عليه زمن الفاطميين الذين اختطوها بتغير الدول وتقلب الأزمنة، وكانت تارة يؤثر فيها الزيادة وتارة النقصان، فترى أحيانا زاهرة زاهية، وطورا واهنة واهية.
ولم نر منا معشر أبنائها من يهدينا إلى تلك التقلبات، ويفقهنا أسباب هاتيك الانتقالات، ويدلنا على ما فيها من الآثار، فنجوس خلالها ولا نعرف أحوالها، ونجوب أقطاعها ولا ندرى من وضعها.
وقد خطّها العلامة المقريزى لوقته، وأطال القول فيما فيها من المبانى والمزارع، وتكلم على الحوادث والرجال، ولكن بعده كم من أمور مرت فدمرت، وغير جرت فغيّرت، حتى ذهب أكثر ما أسهب فى شرحه كليا، وزال حتى صار نسيا منسيا. وكم من آثار خيرية صار نفعها مندثرا مهجورا، ومصانع وصنائع قد دثرت كأن لم تكن شيئا مذكورا.
وكم من تلال كانت عمارات شاهقة، ووهاد كانت بساتين معجبة فائقة، وقبور مزوية فى جوانب الحارات، ومشاهد متباعدة فى الفلوات، أطلق عليها العامة أسماء كاذبة كقولهم هذا ضريح الأربعين مثلا. وكم من مساجد نسبوها لغير من بناها، ومعابد أسندوها لمن لم يكن رآها، والحقيقة أنها قبور ملوك عظام، أو معابد سادات كرام، أو مساجد أمراء فخام.
مع أن معرفة ذلك حق علينا، إذ لا يليق بنا جهل بلادنا، والتهاون بمعرفة آثار أسلافنا، التى هى عبرة للمعتبر وذكرى للمدّكر، فهم - وإن مضوا لسبيلهم - قد تركوا لنا ما بحثنا على اقتفاء آثارهم، وأن نصنع لوقتنا ما صنعوه لوقتهم، وأن نجدّ فى طرق الإفادة