ثم إن مدة استيلاء الفاطميين على أرض مصر كانت مائتى سنة وتسع سنين، وذلك من مدة دخول جوهر وتأسيسه مدينة القاهرة سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إلى انقراض دولتهم بموت العاضد آخر خلفائهم سنة سبع وستين وخمسمائة.
وتولى الخلافة منهم فى تلك المدة أحد عشر خليفة، ما من خليفة منهم إلا جدد عمارات بالقاهرة ومصر وضواحيها، حتى اتسع نطاق العمارة. ولكون القاهرة كانت مقر الخليفة ورجاله وعساكره كانت على جانب عظيم من الاحترام، وأما الفسطاط، فلكونها هى العاصمة، وإليها ترد البضائع وتصدر عنها، فكانت مقر الأعيان وأرباب الثروة، ورجال العلوم والصنائع والحرف.
وكانت الثروة إذ ذاك كبيرة، والتجارة واسعة الأرجاء، بسبب اتساع ملك الفاطميين، فإنه كان ممتدا إلى أقصى بلاد الشام والمغرب، فكانت تأتيها البضائع مما دخل تحت ملكهم ومن غيره.
[[سائح فارسى يصف القاهرة بعد بنائها بخمسين سنة]]
وقد ساح فى بلاد مصر بعد بناء القاهرة بخمسين عاما عالم من الفرس يعرف «بالناصرى خسرو»، ووصف القاهرة والفسطاط، فقال فى رحلته المعروفة «بسفرنامه»: إن الفسطاط تظهر من بعد كالجبل، وفيها منازل من سبع طبقات فأكثر، وسبعة جوامع - كبار. قال:
ولو وصفت ما فيها من آثار السعادة والثروة لكذّبنى الفرس.
وفى موضع آخر قال: إن مدينة القاهرة قلّ أن يوجد لها شبيه فى الدنيا، وقد حسبت فيها عشرين ألف دكان جميعها ملك السلطان، وأغلبها مؤجر بعشرة دنانير، والحمامات والوكائل وغيرها من المبانى لا يحصى عددا، والكل ملك السلطان. لأنه كان ممنوعا فى القاهرة التملك لغيره.
قال: وأخبرت إن فى القاهرة - كما فى مصر - عشرين ألف منزل ملك السلطان أيضا، وجميعها مؤجرة، والأجرة تقبض شهريا، والتأجير والإخلاء من غير جبر ولا إكراه.
وسراى السلطان فى وسط القاهرة، وحولها فضاء لا يحوّم حوله بناء قط، ومتى نظرت إلى السراى المذكورة من بعد تراها كأنها جبل لكثرة المبانى وعلوّها، وأما من دخل البلد، فلا يمكنه نظرها بسبب علو الأسوار.