ومع ما كانت عليه هذه المدينة من العز والثروة عابها ابن رضوان، وشنّع على موقعها وترتيبها، قال: إن بعدها عن خط الاستواء ثلاثون درجة، والجبل المقطم فى شرقيها:
وبينها وبينه المقابر، وقد قال الأطباء إن أردأ المواضع ما كان الجبل فى شرقيه يعوق ريح الصباعنه. قال: وأعظم أجزاء الفسطاط فى غور، فانه يعلوه من الشرق المقطم، وكذا من الجنوب الشرقى، ومن الشمال المكان المعروف بالموقف والعسكر وجامع ابن طولون. ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق، أو من مكان آخر عال، رأيت وضعها فى غور. وقد بين بقراط أن المواضع المتسفلة أسخن من المواضع المرتفعة وأردأ هواء، لاحتقان البخار فيها، لأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها. وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة، وأبنيتها عالية، وقد قال روفس: إذا دخلت مدينة فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء، فاهرب منها لأنها وبيئة، اذ رداءة البخار لا تنحل منها كما ينبغى، لضيق الأزقة وارتفاع البناء.
ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما مات فى دورهم من السنانير والكلاب ونحوها من الحيوانات التى تخّالط الناس فى شوارعهم وأزقتهم، فتتعفن ويخالط عفونتها الهواء. ومن شأنهم أيضا أن يرموا فى النيل الذى يشربون منه فضول الحيوانات وجيفها، وتصب فيه خرارات كنفهم، وربما انقطع جرى الماء فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء. وفى خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها فى الهواء دخان مفرط.، وهى أيضا كثيرة البخار لسخونة أرضها، حتى إنك تجد بها الهواء فى أيام الصيف كدرا، ويتسخ منه الثوب النظيف فى اليوم الواحد وإذا مر بها الإنسان فى حاجة لم يرجع إلا وقد اجتمع فى وجهه ولحيته غبار كثير، ويعلوها فى العشيات، خاصة فى أيام الصيف، بخار كدر أسود، لا سيما عند سكون الرياح، إلى آخر ما قال من كلام طويل.
[[بناء القاهرة ووصول المعز]]
ولما دخلت عساكر المعز الديار المصرية سار جوهر إلى الفسطاط، ودخلها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان من السنة المذكورة، فاختار أن يبنى فى بحريها بعيدا عنها، فاختلط للعسكر فى الرملة التى كانت تجاه قرية أم دنين، وكانت فى ملك الخلفاء العباسيين، ثم بنى ابن طولون، فاستقر جوهر هناك، واختط القصر.
فلما أصبح المصريون ذهبوا إليه للتهنئة، فوجدوه قد حفر أساس القصر ليلا. وكانت فيه ازورارات، فلما رآها لم تعجبه، ثم أغضى عنها، وقال: إنه قد حفر فى ليلة مباركة،