ومن يتأمل مدة كل خليفة وأعماله يرى أن همة أغلبهم كانت متجهة إلى اتساع دائرة العمارة واليسار، وبسبب اتساع ملكهم، وعظم سطوتهم واستقلالهم، وعدم تبعيتهم لغيرهم، وكون القاهرة كرسى ملكهم، كانت القاهرة مقصد التجارة من جميع أطراف المملكة، ومقر الصنائع والمعارف، فأخذت بها التجارة والعلوم غاية لم تكن لها من قبل، ولا حصلت لها من بعد إلى زماننا. واتسعت بسبب ما ذكر أيضا أرزاق أهلها، وزادت ثروتهم، وما من أحد من الخلفاء إلا وصرف الأموال الجمة فيما به ازدياد العمارة، وبذل الجهد فى التوسعة على الفقراء، حتى إنهم كانوا يجلبون من اشتهر ذكره وعلا صيته فى صناعتى البناء والتصوير فى أقاصى الأرض، فكانت مبانيهم من أتقن المبانى، والباقى منها إلى الآن يدل على علو قدرهم، كأبواب زويلة، والفتوح، والنصر، ومسجد الحاكم، والأنور، وغير ذلك.
ولم تقتصر هممهم على ما ذكر، بل وسعوا دائرة السخاء والكرم، حتى عم برّهم وإحسانهم طبقات الناس، من غنى وفقير، من قاص ودان، خصوصا فى أيام مواسمهم وأعيادهم، وخروجهم للنزهة فى فصول تعودوها، وكذا أيام مراكبهم ومواكبهم.
وكان لهم احتفال زائد بأول السنة، وآخرها، وأيام الصوم، وعيدى الفطر والأضحى، وعاشوراء، إلى غير ذلك، مما أطال المقريزى فى بيانه، فذكر ما كان يفرّق فى تلك المواسم من الكساوى الغالية، والنقود الوافرة، وأنواع الحلوى وغيرها، حتى إن من قال إن برّهم كان يعم المدينة، بل وما قاربها لا يكذب، وكانت أمراؤهم تحذو حذوهم، وتسير سيرهم، وكانت طباعهم تسرى فى طباع الغير، حتى صار الكرم سجية، والمروءة عادة فى أهل القطر.
فلما زالت دولتهم بدولة الأيوبية الأكراد تغيرت تلك الطباع، وتلونت بلون طباعهم، حتى فى المأكل والمشرب والملبس. ولم تزل تتلون بتلون القوة الحاكمة، حتى صارت إلى ما ترى مما سيتلى عليك بعضه فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.