وبعد ذلك بشهر اتفقت النصارى على حرق مصر والقاهرة، فوقع حرق هائل فى عدة حارات، ودمر كثير من الدور والربوع والجوامع والمدارس والخوانق، وتلف للناس كثير من الأموال، واستمر ذلك أياما، إلى أن عرف أنها من النصارى، ووقع القبض على من كان يفعل ذلك منهم، وعوقبوا بالحرق والقتل. وبعد ذلك ألزمت النصارى بلبس العمائم الزرق، ونودى بأن من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء، أو راكبا على العادة حل له دمه وماله، وأن لا يركب أحد منهم بغلا ولا فرسا، ومن ركب حمارا فليركبه مقلوبا، ولا يدخل نصرانى الحمام إلا وفى عنقه جرس، ولا يتزيا أحد منهم بزى المسلمين، ومنع الأمراء من استخدامهم، وكثر إيقاع المسلمين بهم، حتى تركوا السعى فى الطرقات، وأسلم كثير منهم.
وبعد ذلك حصل الاهتمام من السلطان والأمراء وغيرهم فى تجديد ما تهدم، وعمارة ما تخرب، حتى تراجعت العمارة وازدادت.
وما زالت القاهرة تزداد فى أيامه عظما وعمارة، واستمرت على ذلك بعده، إلى أن حدث الفناء العظيم فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فخلا كثير من المواضع.
[[أهم أعمال الناصر وصفاته]]
وكان السلطان الناصر محمد بن قلاوون مشغوفا بجلب المماليك من بلاد أزبك وتوريز والروم وبغداد، وبعث فى طلبهم، وبذل الرغائب للتجار فى تحصيلهم، ثم أفاض على من يشتريه منهم أنواع العطاء من عامة الأصناف دفعة واحدة فى يوم واحد، ولم يراع عادة أبيه ومن كان قبله من الملوك فى تنقل المماليك فى أطوار الخدمة حتى تتدرب وتتمرن، وسمح لهم بالنزول إلى الحمام يوما فى الأسبوع، وكانوا ينزلون بالنوبة مع الخدم ويعودون آخر النهار، ولم يزل هذا حالهم، إلى أن انقرضت دولة بنى قلاوون.
ومات عن ألف ومائتى وصيفة مولدة، سوى من عداهن من سائر الأصناف، وبلغت عدة مماليكه اثنى عشر ألف مملوك، حتى صار راتبه وراتب مماليكه من لحم الضأن كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل.
وهو أول من اتخذ للعسكر الأقبية المفتوحة، والطرز الذهب، والحوائص الذهب، والسيوف المسقطة بالذهب.
وهو أول من رتب المواكب فى القصر، ورتب شرب السكر بعد السماط، ورتب وقوف الأمراء فى المواكب على قدر منازلهم، وكذلك أرباب الوظائف.