وقد طالت أيامه فى السلطنة، وصفا له الوقت، وصار غالب النواب والأمراء من مماليكه ومماليك والده، ولا يعلم لأحد من الملوك آثار مثل آثاره وآثار مماليكه، وخطب له على منابر عدة بقاع، وافتتح كثيرا من البلاد والحصون، وأخضع العرب المفسدين، وقتل منهم الكثير، غير من أسره منهم واستخدمه فى الجسور والترع، وأبطل جملة من المظالم، منها ضمان الغوانى، وهو عبارة عن أخذ مال من النساء الباغيات، فكانت إذا خرجت امرأة للبغاء، ونزلت اسمها عند امرأة تسمى الضامنة لا يقدر أحد على منعها، وأبطل ما كان يؤخذ ممن يبيع ملكا، وذلك عن كل ألف درهم عشرون درهما، وأبطل الضرب بالمقارع من سائر أعمال مملكته، وكتب بذلك مراسيم قرئت على المنابر، وحج ثلاث حجات، بذل فيها كثيرا من العطايا والإحسان، وزار بيت المقدس، وقبر الخليل ﵊ ثلاث مرات.
وكان أبيض اللون قد وخطه الشيب، وفى عينيه حول، وبرجله اليمنى ريح شوكة تنغص عليه أحيانا وتؤلمه، وكان لا يكاد يمس بها الأرض، ولا يمشى إلا متكئا على شئ.
وكان شديد البأس، جيد الرأى، يتولى الأمور بنفسه، ويجود لخواصه بالعطايا الكثيرة، وكان مهيبا عند أهل مملكته وخواصه، بحيث أن الأمراء إذا كانوا عنده بالخدمة لا يجسر أحد أن يكلم آخر بكلمة واحدة، ولا يلتفت بعضهم إلى بعض خوفا منه، ولا يمكن واحدا أن يذهب إلى بيت أحد البتة، فان فعل أحد منهم شيئا من ذلك أخرجه من يومه منفيا، وأفنى خلقا كثيرا من الأمراء، بلغ عددهم نحو مائتى أسير، وكان كثير التخيل، حتى لو تخيل من ابنه قتله.
وفى آخر أيامه شره فى جمع المال، وصادر كثيرا من الأمراء والولاة وغيرهم، ورمى البضائع على التجار، حتى خاف كل من له مال. وكان مخادعا، كثير الحيل، لا يقف عند قول، ولا يفى بعهد، ولا يبر فى يمين. ولم يزل قائما على سرير ملكه حتى مرض ومات على فراشه سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، ودفن مع والده بين القصرين. وكانت مدة سلطنته فى مصر والشام ثلاثا وأربعين سنة، وذلك دون اعتزاله السلطنة وفراغه منها، نحو أربع سنين.
ولما مات الملك الناصر ترك أحد عشر من الأولاد الذكور، وتولى السلطنة بعده ثمانية منهم، وأكثرهم كان لا خير فيه.