للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خمسا وأربعين مدرسة فى نحو مائة وثمانين سنة، وصار فى القاهرة سبعون مدرسة، يدرس بها المذاهب الأربعة، وبعضها كان مختصا بالصوفية.

وكان يتأنّق فى بناء تلك المدارس وزينتها وزخرفتها وترخيمها، وتعمل لها الشبابيك من النحاس المكفت بالذهب والفضة، وتصفح أبوابها بالنحاس البديع الصنعة المكفت، ويجعل فيها خزانة كتب، بها عدة من المصاحف والكتب فى الحديث والفقه وغيرهما من أنواع العلوم. وكان يتأنق فى عظم المصاحف وكتابتها، فمنها ما كان طوله أربعة أشبار إلى خمسة، وعرضه قريب من ذلك، ولها جلود فى غاية الحسن معمولة فى أكياس الحرير الأطلس.

وكانت العادة عند انتهاء عمارة المدرسة أن يدعو صاحبها القضاة والأعيان وغيرهم من الأمراء، ويمدّ لهم سماطا جليلا، وتملأ البركة التى بوسط المدرسة ماء قد أذيب فيه سكر، مزج بماء الليمون، ويسقى منه الحاضرون. وفى الجلسة يقرر المدرسين فى المذهب أو المذاهب، وفى الحديث والتفسير، ويخلع عليهم الملابس الفاخرة، ويقرر لكل من المدرسين طائفة من الطلبة، ويجرى عليهم الرواتب من الخبز فى كل يوم ومن الدراهم فى كل شهر، ويرتب الإمام والقومة والمؤذنين والفراشين والمباشرين، ويوقف عليهم الأوقاف الدارة، وقد بيّنا أوقاف بعض تلك المدارس، وما لحقها من التغيرات والأحوال فى هذا الكتاب.

ومن ابتداء القرن التاسع إلى القرن الثانى عشر يعنى مدة ثلاثة قرون قد أهمل أمر المدارس، وامتدت أيدى الأطماع إلى أوقافها، وتصرف فيها النظّار على خلاف شروط وقفها، وامتنع الصرف على المدرسين والطلبة والخدمة، فأخذوا فى مفارقتها، وصار ذلك يزيد فى كل سنة عما قبلها، لكثرة الاضطرابات الحاصلة بالبلاد، حتى انقطع التدريس فيها بالكلية، وبيعت كتبها وانتهبت، ثم أخذت تتشعث، وتتخرب، من عدم الالتفات إلى عمارتها ومرمتها، فامتدت أيدى الناس والظلمة إلى بيع رخامها وأبوابها وشبابيكها، حتى آل بعض تلك المدارس الفخيمة، والمبانى الجليلة إلى زاوية صغيرة تراها مغلقة فى أغلب الأيام، وبعضها زال بالكلية وصار زريبة أو حوشا أو غير ذلك، كما بيّناه فى هذا الكتاب، ولله عاقبة الأمور.