ونقصها كانت تلك البرك تتناقص وينكشف جزء عظيم من جوانبها فتنبت به المراعى الحسنة الجمة، فكانت الجواميس والبقر الأهلى ترتع فيه من جميع البلاد المجاورة، وأما البقر والجاموس الجفال (المتوحش الذى ليس له ملاك) فكانت تأوى وسط البرية البعيدة عن طروق الناس لها، وكان الرعاة يقيمون فى البرية فى أخصاص من البوص والبردى ونحوه، والمواشى سائبة فى البرية ليلا ونهارا، وكل راع قد جعل لمواشيه اسما عوّدها عليه، يناديها به-لنحو الحلب-فتأتى إليه فى تايته (محل إقامته)، فإذا حضرت أرسل عليها أولادها، وقد كان أمسكها عنده، لتحن عليها فترضع منها ما يمكنها منه ثم يحلبها، وفى كل تاية توجد قصع كبيرة تسع القصعة لبن نحو عشر جاموسات، فيملؤها ويتركها مملوءة يومين بليلتين فيتربى على وجه اللبن ما يسمى بالقشطة، فيكشطه ويجمعه فى قصعة أو برميل، ويضرب باليد حتى يخرج زبده، ويمتاز من غيره. فيجعل الزبد قوالب ويحفر فى الأرض السبخة حفرة مربعة الشكل، مدلوكة الباطن دلكا شديدا، فيجعل فيها اللين المخرج زبده، ثم توضع الزبدة فتعوم فى وسطه، ويكتسب الجميع من الأرض ملوحة تصلحه وتمنعه من التغير. وأما الجبن فيعمل من الرائب الذى أخذت القشطة من على وجهه، وطريق عمله، أن يضعوه فى قدور كبيرة من النحاس، واسعة الأفواه ضيقة الأسافل، ويوقدوا عليه النار حتى يجمد ويمصر منه ماء أصفر، فينشل الجبن من هذا الماء الماصر ويوضع فى أوعية متخذة من نبات الأرض صغيرة تسمى البواقيط فيصفو من بقية مائه ويزداد جمودا، ويجمع الماء الماصر منه ويجعل فى حفائر كالأول ويوضع فيها الجبن فيكتسب من ملوحة الأرض. وفى أوان عمله تحضر له تجار كل جمعة فيشترونه منهم.
وكان الرعاة لا يعرفون الأقة ولا الرطل، بل يبيعون السمن بمعيار عندهم من أوانى الفخار، ويبيعون الجبن بالشيلة، وهى وزن حجر معروف عندهم يوجد فى كل تاية.
وأما البقر الجفال فكان كثيرا فى داخل البرية، ولم ينقطع إلا بعد سنة ستين،