رسولا فأمر الربيع أن يطوف به فى المدينة حتى ينظر إليها ويتأملها ويرى أسوارها وعمارتها وقباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك، ففعل الربيع ذلك، فلما رجع إلى المنصور قال له: كيف مدينتى؟ قال له: رأيت بناء حسنا ومدينة حسنة إلا أن أعداءك معك فيها، قال: ومن هم؟ قال: السوقة يوافى الجاسوس بعلة التجارة من الأطراف ويعرف ما يريد وينصرف من غير أن تعلم به، فسكت المنصور، ولما انصرف البطريق أمر بإخراج الأسواق من المدينة، وأمر أن يبنى بين الصرات ونهر عيسى سوق، وأن يجعل صنوفا، ويرتب كل صنف فى موضعه فسميت الكرخ بذلك، وقيل إن سبب نقلها أن دخانها ارتفع فسود الحيطان فأمر بإخراجها لذلك.
والصرات اسم للنهر الذى بنى عليه المنصور مدينة بغداد وهو خارج من نهر عيسى، بقرب القرية المعروفة بالمحول على فرسخ من بغداد، وبعد أن يسقى الأرض يمر فى بغداد ويصب فى الدجلة، وقبر زبيدة زوجة هارون الرشيد فى المحلة التى بها قبر معروف الكرخى، على ما ذكره نييبهر فى سياحته فى بلاد العرب، وبغداد التى كان يمر هذا النهر فى وسطها هى بغداد القديمة، وكانت تسمى الهاشمية كما قال فخر الدين، ثم ذكر أيضا الأسباب التى أوجبت انتقال المنصور منها إلى بغداد الجديدة، التى سميت مدينة المنصور وهى بالجانب الغربى قريبة من مشهد موسى الجواد فقال: إنه أتى نصرانى صاحب علم ومعرفة وتكلم يوما مع الخليفة فقال: يا أمير المؤمنين تكون على الصرات بين دجلة مع الفرات فإذا حاربك أحد كانت دجلة والفرات خنادق لمدينتك، ثم إن الميرة تأتيك فى دجلة من ديار بكر ومن البحرين والهند والصين والبصرة وفى الفرات من الرقة والشام، وتجيئك الميرة أيضا من خراسان وبلاد العجم فى شط تامرا، وأنت يا أمير المؤمنين بين أنهار لا يصل عدوّك إليك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر أو أخربت القنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت متوسط البصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل، وكان أبو حنيفة صاحب المذهب يعد اللبن والآجر، وهو الذى اخترع عده بالقصبة اختصارا (أى يعتبره بالمساحة).