والطرقات قد انقطعت برا وبحرا إلا بالخفارة الثقيلة، كتب المستنصر إليه يستدعيه ليكون المتولى لتدبير دولته، فاشترط أن يحضر معه من يختاره من العساكر، ولا يبقى أحدا من عسكر مصر، فأجابه المستنصر إلى ذلك، فاستخدم معه عسكرا، وركب البحر من عكا فى أول كانون، وسار بمائة مركب بعد أن قيل له إن العادة لم تجر بركوب البحر فى الشتاء لهيجانه وخوف التلف، فأبى عليهم، وأقلع فتمادى الصحو والسكون مع الريح الطيبة مدة أربعين يوما، حتى كثر التعجب من ذلك، وعد من سعادته، فوصل إلى تنيس ودمياط، واقترض المال من تجارها ومياسيرها، وقام بأمر ضيافته وما يحتاج إليه من الغلال سليمان اللواتى - كبير أهل البحيرة.
وسار إلى قليوب، فنزل بها، وأرسل إلى المستنصر يقول: لا أدخل إلى مصر حتى تقبض على بلد كوش، وكان أحد الأمراء وقد اشتد على المستنصر بعد قتل ابن حمدان، فبادر المستنصر وقبض عليه واعتقله بخزانة البنود، فقدم بدر عشية الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة خمس وستين وأربعمائة، فتهيأ له أن قبض على جميع أمراء الدولة.
وذلك أنه لما قدم لم يكن عند الأمراء علم باستدعائه، فما منهم إلا من أضافه، وقدم عليه، فلما انقضت نوبهم فى ضيافته استدعاهم إلى منزله فى دعوة صنعها لهم، وبيت مع أصحابه أن القوم إذا أجنهم الليل، فإنهم لابد يحتاجون إلى الخلاء، فمن قام منهم إلى الخلاء يقتل هناك، ووكل بكل واحد واحدا من أصحابه، وأنعم عليه بجميع ما يتركه ذلك الأمير من دار ومال وإقطاع وغيره، فسار الأمراء إليه وظلوا نهارهم عنده، وباتوا مطمئنين، فما طلع ضوء النهار حتى استولى أصحابه على جميع دور الأمراء، وصارت رؤوسهم بين يديه، فقويت شوكته، وعظم أمره، وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقور، وقلده وزارة السيف والقلم، فصارت القضاة والدعاة وسائر المستخدمين من تحت يديه.
وزيد فى ألقابه: أمير الجيوش، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، وتتبع المفسدين فلم يبق منهم أحدا حتى قتله، وقتل من أماثل المصريين وقضاتهم ووزرائهم جماعة.
ثم خرج إلى الوجه البحرى، فأسرف فى قتل من هناك من لواته، واستصفى أموالهم، وأزاح المفسدين وأفناهم بأنواع القتل. وصار إلى البر الشرقى، فقتل منه كثيرا من المفسدين.
ونزل إلى الإسكندرية، وقد ثار بها جماعة مع ابنه الأوحد، فحاصرها أياما من المحرم سنة سبع وسبعين وأربعمائة إلى أن أخذها عنوة، وقتل جماعة ممن كان بها، وعمر جامع العطارين من مال المصادرات، وفرغ من بنائه فى ربيع الأول سنة تسع وسبعين.