للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخليفة العاضد لدين الله عند ما ضيق على أهل القصر وشدّد عليهم واستبدّ بأمور الدولة، وأضعف جانب الخلافة، وقبض على أكابر الدولة، فصار مع جوهر عدة من الأمراء المصريين والجند، واتفق رأيهم على أن يبعثوا إلى الإفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة، حتى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكره ثاروا عليه وهم بالقاهرة، واجتمعوا مع الإفرنج على إخراجه من مصر، ووقف صلاح الدين على هذا الخبر، فخاف مؤتمن الخلافة ولزم القصر، وامتنع من الخروج منه، فأعرض صلاح الدين عن ذلك جملة، وطال الأمر، فظن الخصى أنه قد أهمل أمره، فصار يخرج من القصر، وكانت له منظرة بناحية الخرقانية فى بستان، فخرج إليها فى جماعة، وبلغ ذلك صلاح الدين، فأنهض إليه عدة هجموا عليه، وقتلوه، واجتزوا رأسه، وأتوا بها إلى صلاح الدين.

واشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع، فغضب العسكر المصريون، وثاروا بأجمعهم فى سادس عشر ذى القعدة سنة أربع وستين وخمسمائة، وقد انضم إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامة، حتى صاروا ما ينيف على خمسين ألفا، وساروا إلى دار الوزارة، وفيها يومئذ صلاح الدين، وقد استعدوا بالأسلحة، فبادر شمس الدولة فخر الدين توران شاه أخو صلاح الدين وخرج فى عساكر الغز، وركب صلاح الدين، وقد اجتمع إليه طوائف من أهله وأقاربه، وجمع الغز ورتّبهم، ووقع بينهم وبين العبيد وقعة بين القصرين، وكادت الهزيمة تكون على الغز لولا أن ثبت صلاح الدين وأخوه، وقصد حرق المنظرة التى بها الخليفة لميل أهل القصر للعبيد، ومساعدة الخليفة لهم، فعند ذلك خاف الخليفة، وفتح باب المنظرة زعيم الخلافة أحد الأستاذين، وقال بصوت عال: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة، ويقول: دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من بلادكم.

فلما سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم، ووضع الغز فيهم السيف، فقتل منهم الكثير، وانهزموا إلى السيوفيين بقرب الغورية. وهناك قتل منهم العدد الوافر، كلما دخلوا مكانا حرقوه عليهم، وهكذا حتى صاروا إلى باب زويلة، فوجدوه مقفلا، فلم يجدوا مخلصا، ووقع فيهم القتل من كل ناحية، وطلبوا الأمان، فأمّنهم صلاح الدين، وفتح الباب، فخرجوا إلى الجيزة، واقتفى أثرهم حتى أفناهم عن آخرهم.

وتمكن بعد ذلك صلاح الدين من الديار المصرية، وصار هو الحاكم المستبد، يفعل ما يشاء، وصار يوالى الطلب من العاضد فى كل يوم ليضعفه، حتى أتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك. ولم يبق عند العاضد غير فرس واحد، فطلبه منه، وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت، وصار لا يخرج من قصره البتة.