ولم يزل على حالته وسطوته إلى أن حضر حسن باشا الجزائرلى إلى مصر، فخرج المترجم مع عشيرته إلى ناحية قبلى، ثم رجع فى أواخر سنة خمس ومائتين وألف، وذلك بعد إقامته بالصعيد زيادة عن أربع سنوات، ففى تلك المدة ترزن عقله، وانهضمت نفسه، وتعلق قلبه بمطالعة الكتب، والنظر فى جزئيات العلوم والفلكيات والهندسيات، وأشكال الرمل والزايرجات والأحكام النجومية والتقاويم، ومنازل القمر وأنوائها، ويسأل عمن له إلمام بذلك فيطلبه ليستفيد منه، واقتنى كتبا فى أنواع العلوم والتواريخ، واعتكف بداره القديمة، ورغب فى الانفراد وترك الحالة التى كان عليها قبل ذلك، واقتصر على مماليكه والإقطاعات التى بيده واستمر على ذلك مدة من الزمان، فثقل هذا الأمر على أهل دائرته، وبدا يصغر فى أعين خشداشيه، ويضعف جانبه، وطفقوا يباكتونه، وتجاسروا عليه، وطمعوا فيما لديه، فلم يسهل عليه ذلك، واستعمل الأمر الأوسط، وسكن بدار أحمد جاويش المجنون بدرب سعادة وعمر القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس، وأنشأ أيضا قصرا فيما بين باب النصر والد مرداش وجعل غالب إقامته فيه، وأكثر من شراء المماليك حتى اجتمع عنده نحو ألف مملوك خلاف الذى عند كشافه وهم نحو الأربعين كاشفا، وبنى له قصر خارج بلبيس، وآخر بالدماميين.
وكان له داران بالأزبكية إحداهما كانت لرضوان بيك يلبغا، والأخرى للسيد أحمد ابن عبد السلام، فبدا له فى سنة اثنتى عشرة ومائتين وألف أن ينشئ دارا عظيمة خلاف ذلك بالأزبكية، فاشترى قصر ابن السيد سعودى الذى بخط الساكت، فيما بينه وبين قنطرة الدكة وهدمه وبناه، وصرف عليه الأموال الجسيمة كما تقدم ذلك، وازدحمت خيول الأمراء ببابه، وكان أول سكنه بهذا البيت فى أواخر شهر شعبان من السنة المذكورة، وأقام به إلى منتصف شهر رمضان، فكانت المدة كلها ستة عشر يوما، ثم بدا له السفر إلى جهة الشرقية
وفى أثناء ذلك وصلت الفرنساوية إلى الإسكندرية، ثم إلى مصر، وجرى ما جرى من الحروب بينهم وبين المصريين وابتلى المترجم مع جنده فى تلك الوقائع بلاء حسنا وقتل من كشافه ومماليكه عدة وافرة، ولم يزل مدة إقامة الفرنساوية بمصر يتنقل فى الجهات القبلية والبحرية، ويعمل معهم مكايد ويصطاد منهم.
ولما وصل عرضى الوزير إلى الشام ذهب إليه وقابله، وأنعم عليه، وكان معه رؤساء من الفرنساوية وعدة أسرى، وأسد عظيم اصطاده فى سروحه فشكره الوزير وخلع عليه