فى بيانه موقفا حدث فيه بعض خواصه عما كان وما يكون إلى يوم الدين، وعلى آله كنوز أسراره، وأصحابه حملة شرعه وأخباره.
أما بعد فإن الله جلت قدرته، ودقت حكمته، جعل أحوال الماضين عبرة للغابرين، وأخبار الأولين أدبا تتكمل به نفوس الآخرين، وطرائق السابقين مثالا يحذو حذوه نبلاء اللاحقين، فعلم كل أناس مشربهم، ونهج كل قبيل مذهبهم. لهذا كان علم التاريخ من أرفع العلوم شأنا، وأرجحها ميزانا، وأفسحها مجالا، وأنفعها حالا ومآلا، فأكبّ النبلاء على تدوين أحوال أسلافهم، وذكر معاهدهم، ومنشأ اختلافهم وائتلافهم. وما قنعوا حتى بحثوا عن مبدأ عالم الإنسان، فسطروا أحواله من نشأته. وقيدوا شئونه من جذمه إلى قمته، وبيّنوا أصوله وفصوله، من القبائل والشعوب والعشائر، والفصائل والبطون والأفخاذ والعمائر.
وفصّلوا أنواعه وأصنافه من عرب وعجم على تشعب فروعها وأصولها، وتوفرت لديهم الدواعى لشحن بطون الدفاتر بتفصيل مصطلحاتهم، وتحرير نقولها، وقيد علماء كل فريق ما أشرق الله على عقولهم من أنوار العلوم والمعارف، وانتفع من بعدهم بما أبرزوه من غوامض الأسرار؛ التالد منها والطارف.
واجتهد إثر ذلك جهابذة المتأخرين، فافتتحوا كنوز المعارف التى اشتد فى إخفاء مغالقها حذاق السابقين، فكشفوا هاتيك الأستار، وفتحوا خدور تلك الأفكار، وأبرزوا من حصونها مخدرات الأبكار، واستنتجوا من أصولها غوامض فصول شذت عن أفكار سلفهم، واستحدثوا شوارد فروع ندت عن أفئدة أولئك، فانتفعوا بها فى شئونهم، وكانت ثمرتهم لخلفهم، ليعلم أنه كم ترك الأول للآخر، وأن فضل الله على عباده لا يختص به سابقهم، بل هو عام للجميع ظاهر باهر، واعتنوا أيضا ببيان مساكنهم ومنازلهم من المدن والقرى والبوادى والجبال مواقعها من المعمورة وأبعادها وأطوالها وعروضها وميلها عن خط الاستواء على أتم حال، وابانوا أديانهم وعباداتهم ومعبوداتهم، وسيرهم فى أنفسهم ومع ملوكهم، ووقائعهم وحروبهم وعاداتهم.
ونقش بعض الأمم ذلك على جدران معابدهم وهياكلهم وبرابيهم ومغاراتهم، وبعضهم ملأ بذلك أغوار سجلاتهم. واعتنى المتأخرون ببيان خطط بلادهم وديارهم، وتبعهم من بعدهم على آثارهم، سيّما أهل الديار المصرية، فإنهم جارون فى ذلك غالبا على عوائد أهل هذه الديار الأصلية.
وممن شمر الذيل فى ذلك، واشتد فى السعى حتى بلغ الغاية وسابق فرسان هذا الميدان، فلم يكن لسبقه نهاية نابغة زمانه، وقدوة فضلاء آنه، الشيخ الإمام علامة الأنام: تقى الدين