وأما الطرحى، فلم يحص عددهم بحيث ضاقت بهم الأرض، وحفرت لهم حفر وآبار. وألقوا فيها، وجافت الطرق والنواحى والأسواق، وكثر أكل لحم بنى آدم-خصوصا الأطفال-فكان يوجد عند رأس الميت لحم ابن آدم الميت، ويمسك بعضهم فيوجد معه كتف طفل، أو فخذه، أو شئ من لحمه.
وخلت الضياع من أهلها، حتى أن القرية التى كان بها مائة نفس، لم يوجد بها غير نحو عشرين، وأغلبهم يوجد ميتا فى مزارع الفول، لا يزال يأكل منه حتى يموت، ولا يستطيع الحرّاس ردّهم لكثرتهم. ومع ذلك وجد المحصول-بعد الحصاد-أضعاف المعتاد.
ولقد كان للأمير فخر الدين ألطنبغا المساحى، من جملة زرعه مائة فدان من الفول، لم يمنع أحدا من الأكل منها فى موضع الزرع، ولم يمكّن أحدا أن يحمل منها شيئا زيادة عن أكله، فلما كان أوان الدرس خرج بنفسه، وقف على أجران المائة فدان المذكورة، فإذا تل عظيم من القشر الذى أكلت حبه الفقراء، فطاف به وفتشه، فلم يجد فيه من الحب شيئا، فأمر به أن يدرس لينتفع بتبنه، فلما درس جاء منه سبعمائة وستون أردبا، فعدّ ذلك من بركة الصدقة، وفائدة أعمال البر، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
وكثرت أرباح التجار والباعة، وازدادت فوائدهم، فكان الواحد من الباعة يستفيد فى اليوم ثلاثين درهما، وكذلك كانت مكاسب أرباب الصنائع، واكتفوا بذلك مدة الغلاء، وأصيب جماعة كثيرون ممن ربح فى الغلال، من الأمراء، والجند، وغيرهم، مدة الغلاء، إما فى نفسه وإما فى ماله؛ فلقد كان لبعضهم ستمائة أردب باعها، سعر كل أردب مائة وخمسون درهما، بل بعضها باعه بأزيد، فلما ارتفع السعر عما باع به، ندم على بيعه الأول حيث لم ينفعه الندم، فلما صار إليه ثمن الغلال أنفق معظمه فى عمارة زخرفها، وبالغ فى تحسينها، حتى إذا فرغ منها، وظن أنه قادر عليها، أتاها أمر ربها فاحترقت، وأصبحت لا ينتفع بها أصلا.