لميله الفطرى وغريزته الطبيعية، فصرف أوقاته فى تحصيل فنونها بدون توان، فبرع فيها واشتهر، ووسمه جميع من بها من الضباط والمعلمين والتلامذة بالاستقامة، وحسن السير وغزارة المدركة، ومع لين عريكته كان مهيبا بين أقرانه، وكانت حركة الإدارة الداخلية بوقته جارية على قوانين عسكرية صعبة، تستوجب مخالفتها جزاآت قاسية، فكانت تلامذة المدرسة بمعزل عن شراسة الأخلاق والفجور والأمور والدنيئة، وكانت لهم المدرسة كحصن منيع عن جميع الأمور الخارجية، حافظة لهم عما كان ابتداء ظهوره فى تلك الأوقات من الكتب المشحونة بالطعن فى الدين والرسل والأولياء، حتى كثر ميل الناس لمثل هذه الأمور وتفاخروا بالمعاصى والفجور.
وأما التلامذة فكانت ملاذهم وفكرتهم محصورة فى تلقى الدروس، سيما والمترجم لم تكن عائلته قريبة منه، ولا تصل إليه أخبارهم إلا بعد حين، فكان لا يتمكن من كثرة المصروف الذى ربما يحمل صاحبه على الصرف فيما لا يليق، كما كان ذلك حال بعض أولاد الأمراء.
وكان المترجم متفرغا لأشغاله، صارفا أفكاره فى النظر فى أحوال الماضين، خصوصا قيصر الروم واسكندر المقدونى، فإنه كان كثير الاطلاع على أخبارهما، محبا للاقتداء بهما فى علوّ الهمة، ولتولعه بذلك صار له معرفة بأحوال كثير ممن مضى، مع التأمل فى أحوال زمانه، فكان ذلك سببا فى تباعده عن الرذائل المغموس فيها غيره من الأقران. واستنارت بصيرته حتى كان مع صغر سنه يقرر من بنات فكره القواعد العالية فى أمور شتى ويطبقها على مقتضيات الأحوال فتتعجب من ذلك خوجاته ورؤساؤه.
وحين خروجه من المدرسة وهو فى سن الست عشرة أحرز رتبة الملازم، وتوجه فى محافظة مدينة ولا نص، فسار بها على طريق سيره الذى كان عليه مدة التلمذة، فأحبه رؤساؤه وملازموه، مع استدامة الاطلاع على ما به تتسع