وأتى إلى دمشق من الديار المصرية وأقام بها مدة، وكثر انتفاع الناس بعلمه. ورأيته لما كان بدمشق فى آخر مرة أتى إليها، وهو شيخ نحيف الجسم، مربوع القامة، حسن الكلام، جيد العبارة. وكانت مسطراته أبلغ من لفظه. وكان ﵀ ربما يجاوز فى الكلام لكثرة ما يرى من نفسه. وكان يستنقص الفضلاء الذين فى زمانه وكثيرا من المتقدمين. وكان وقوعه كثيرا جدا فى علماء العجم ومصنفاتهم وخصوصا الشيخ الرئيس ابن سينا ونظراءه.
ونقلت من خطه فى سيرته التى ألفها ما هذا مثاله قال: أنى ولدت بدار لجدى فى درب الفالوذج فى سنة سبع وخمسين وخمسمائة. وتربيت فى حجر الشيخ أبى النجيب، لا أعرف اللعب واللهو، وأكثر زمانى مصروف فى سماع الحديث. وأخذت لى إجازات من شيوخ ببغداد وخراسان والشام ومصر. وقال لى والدى يوما: قد أسمعتك جميع عوالى بغداد، وألحقتك فى الرواية بالشيوخ المسان. وكنت فى أثناء ذلك أتعلم الخط وأتحفظ القرآن والفصيح والمقامات وديوان المتنبى ونحو ذلك. ومختصرا فى الفقه ومختصرا فى النحو. فلما ترعرعت حملنى والدى إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنبارى وكان يومئذ شيخ بغداد، وله بوالدى صحبة قديمة أيام التفقه بالنظامية.
فقرأت عليه خطبة الفصيح فهدر كلاما كثيرا متتابعا لم أفهم منه شيئا. لكن التلاميذ حوله يعجبون منه. ثم قال: أنا أجفو عن تعليم الصبيان، احمله إلى تلميذى الوجيه الواسطى يقرأ عليه، فإذا توسط حاله قرأ على.
وكان الوجيه عند بعض أولاد رئيس الرؤساء. وكان رجلا أعمى من أهل الثروة والمروءة، فأخذنى بكلتا يديه وجعل يعلمنى من أول النهار إلى آخره بوجوه كثيرة من التلطف. فكنت أحضر حلقته بمسجد الظفرية ويجعل جميع المشروحات لى ويخاطبنى بها. وفى آخر الأمر أقرأ درسى مع نفسه فأحفظه وأحفظ معه، ثم يذهب إلى الشيخ كمال الدين فيقرأ درسه ويشرح له وأنا أسمع، وتخرجت إلى أن صرت أسبقه فى الحفظ والفهم، وأصرف أكثر الليل فى الحفظ والتكرار.