بغاية الراحة؛ لأنه كان يعلق الدرس فى أقرب وقت، وكنت لا أحفظ الدرس إلا بعد جهد جهيد وأمد بعيد، ولا أترك المطالعة خوفا من أن يفوتنى، ندى هذا عليه سحائب الرحمة، وما عجل به على ريعان صباه إلا احتراقه بنار ذكاه، فقلت فيه:
تعلل من ذكاه وكان حرفا … صحيح الجسم كالجمل الهجان
وطبع النار يحرقه ما أتاه … ولا يبقى سوى جسد الجبان
وكانت دروسنا فى مدرسة الألسن عبارة عن علوم لغتى الفرنساوية والعربى، كالنحو والمجاز والمنطق، والبديع والعروض والأدب، والجغرافية والحساب والهندسة، والطب والتاريخ والخط والرسم، وذلك غير حفظ الدواوين ولما كلفنا بحفظها حفظت ديوان ابن الفارض، وابن معتوق، والبرعى، وابن سهل، وبانت سعاد، والهمزية، وغير ذلك من/خزانة الأدب وحلبة الكميت، مع المواظبة على المطالعة فى أغلب الأوقات بالكتب التى كان يتيسر لى الاستحواذ عليها فى العربية والفرنساوية. وأخذت تلك العادة عن المرحوم محمد أفندى البياع، فإنى لازمته وصاحبته حتى فرق الدهر بيننا، وكان عليه سحائب الرحمة من أحسن المعلمين، وأدق المترجمين خلاصة المدرسة وباكورتها، وروايتها وقارورتها؛ حتى لقد فاق الفرنساوية فى لغتهم.
فإنه ذات يوم تراهن مع فرنساوى على كلمتين موضوعتين لنعيق الغراب، ونقيق الضفادع، فكان الأمر كما ذكر، وكسب الرهان. ولنرجع إلى ما كنت فيه من الاشتغال بالمطالعة فى الكتب، فإنه هو السبب لازدياد معرفتى فى اللغتين، واكتساب درجات التقدم بين أقرانى، إذ ندبت سنة إحدى وستين ومائتين، وألف لتعليم اللغة الفرنساوية لرجل فى الديوان الخديوى يسمى زائد أفندى، كان العزيز محمد على قد استخدمه لترجمة مجموع الشيخ الجزائرلى فى مذهب أبى حنيفة بالتركية، وكان بطيئا فى الحفظ، وفى فهم المعنى فما اعتنيت بأن أقول فيه الشعر، ولو هجوا فقلت فيه مزجلا: