إذ أخذته - حفظه الله - الغيرة الوطنية، واحتملته الحمية، حمية العلمية، وهاجته النجدة والحرية الطبيعية، ودعته محبة تكثير العلوم والمعارف والأعمال الخيرية واهتزته نخوة الأريحية الجبلية، فنادى فى سوق الأدب:
«يا تجار الآداب، يا من سلكوا فى طريق المعرفة سبيل الصواب، يا جهابذة التاريخ، وأساة الأخبار، يا دعاة العلوم، ورعاة الآثار، يا من أعملوا جيادهم فى تدوين الفنون، يا نقاد النفائس ودهاقنة الجوهر المكنون. إن هذه الديار قد انمحت من دواوين التخطيط أخبارها، واندرست - أو كادت - من معالم التاريخ الآن آثارها، فهل من حر تحمله الهمة على تخطيط داره؟ هل من ذى نخوة تستفزه مروءته إلى إيضاح منار وطنه، وتدوين تاريخه، وإشهار أخباره وآثاره؟ يا فرسان هذا الميدان، يا من لهم اليد الطولى فى هذا الشان، يا من اشتهروا باحتياز فنون الأدب والتاريخ فى جميع البلدان، هلموا إلى هذه الخطة التى فضلها لا ينكر، والعمل الذى مزيته الحسنة وأثره الجميل أشهر من أن يذكر».
فلم يجبه إلى هذا النداء مجيب، ولم يظهر لهذا الداء طبيب، ولم يأخذ أحد من هذا الفضل محظ ولا نصيب.
فشمر حفظه الله ساعد الاجتهاد، واعتمد فى هذا الغرض المهم على رب العباد، وسار بحول الله وقوته سالكا سبيل السداد، وجمع لذلك الكتب العدة، واستعد له بكل عدة، ووضع خطط المقريزى أمامه، وسلّ فى سيره على قطاع الطريق من شياطين الغواية حسامه، وصار يذكر فى كل مكان من أماكن القاهرة خطته القديمة واسمه وشهرته التى كانت فى ذلك الوقت مستديمة، ثم يعقبه بذكر ما تحولت إليه فى وقتنا هذا وقبله حاله، وما آل إليه مآله. ويذكر أول من أنشأ هذا المكان ومن انتقل إليه بعده مرة بعد أخرى حتى الآن وتملكه، ومن استولى عليه بأى نوع من أنواع الاستيلاء، أو فى سلك الأوقاف سلكه، وهكذا الأمر فى جميع أخطاط القاهرة وشوارعها وحاراتها ودروبها وأزقتها وبيوتها الكبيرة والصغيرة وخاناتها، حتّى صارت جهاتها واضحة معلومة للسالكين، غير مشتبهة الأعلام والطرق على السائرين فى أزقتها والسابلين.
وذكر فى أمر الجوامع والمساجد والزوايا والكنائس والديور ما هو أغرب وأطرب، وذكر من تواريخ أصحاب الأضرحه، ومشاهير الأولياء والعلماء وأرباب البيوت والمساجد والأوقاف والأسبلة وغير ذلك وتراجمهم، فأبان وأعرب، وذكر قبل ذلك فائدة تشتمل على حملة عدد المساجد والجوامع والزوايا والربط والكنائس والديور والحمامات.