هذه السنة جوع عم الخلق فى القرى والأرياف، فتركوا بلادهم وانتقلوا إلى القاهرة، ودخل فصل الربيع، فهبّ هواء تبعه وباء، وفناء، وعدم القوت، حتى أكل الناس أطفالهم شواء وطبخا، ثم نهوا عن ذلك، فلم يفد، فكان يوجد بين ثياب المرأة، وكذا الرجل، كتف طفل أو فخذه أو شئ من لحمه، ويدخل بعضهم بعض حارات، فيجد القدر على النار فينظرها فإذا فيها/لحم طفل، وأكثر ما وجد ذلك فى بيوت الأكابر. وأغرق فى أقل من شهرين ثلاثون امرأة بسبب ذلك.
ثم اشتد الأمر حتى صار أكثر غذاء الناس من لحم بعضهم، ولم يمكن منعهم لعدم القوت، من جميع الحبوب والخضراوات. فلما كان آخر الربيع، انحسر الماء عن المقياس إلى بر الجيزة، وتحوّل وتغير طعمه وريحه، ثم أخذ فى الزيادة-قليلا قليلا-إلى الثانى عشر من مسرى، فزاد إصبعا واحدا. ثم وقف أياما وأخذ بعد ذلك فى الزيادة القوية، وأكثرها ذراع، إلى أن بلغ خمسة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا، ثم انحط من يومه، فلم تنتفع به البلاد لسرعة نزوله. وكان أهل القرى قد فنوا، حتى أن القرية، التى كان أهلها خمسمائة نفر، لم يبق بها غير اثنين أو ثلاثة.
ولم تعمل الجسور ولا مصالح البلاد لعدم البقر، فإنها فقدت حتى بيعت البقرة بسبعين دينارا، وملأت الجيف جميع الطرق بمصر والقاهرة، وغيرهما من بلاد الإقليم، والذى زرع-على قلته-أكله الدود ولم يمكن زرع غيره. وكانت التنانير لا يوقد فيها بغير خشب البيوت، وكانت جماعة من أهل الستر يخرجون ليلا، ويحتطبون من المساكن الخربة، فإذا أصبحوا باعوها. وكانت الأزقة كلها بمصر والقاهرة لا يرى فيها من الدور المسكونة غير القليل. وكان الرجل بالريف-فى أسفل مصر وأعلاها-يموت وبيده المحراث، فيخرج آخر فيصيبه ما أصاب الأول.
واستمر النيل-ثلاث سنين-بدون أن يطلع منه غير قليل، حتى بلغ الأردب أو المدّمن القمح ثمانية دنانير، فأطلق العادل للفقراء شيئا من الغلال، وقسّم الفقراء على أرباب