للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأنا صغير-بطرق القاهرة، وكنت أفزع من النظر للمبتلين والمجذومين المنتشرين فى أزقة البلد والطرقات، فانظر ما الذى صار، حتى أنا لا نرى منهم الآن أحدا؟، هل لذلك سبب غير ضبطهم ومعالجتهم بالمستشفى المنتظم فى كل بندر ومدينة، فمن يمر الآن فى أزقة القاهرة لا يرى شيئا مما ذكره أحد السياحين: من أنه رأى فى العشرة من أهل مصر ثمانية، ما بين أعمى وأعور، أو على عينه نقطة، أو به رمد، فهل ينبغى لنا تكذيب السياح المذكور؟

بل الذى نقوله: إن الناس تشبثت بمعالجة أمراض العيون، وكثر الكحّالون، واتبعت طرق تلطفت بها أمراض العيون.

ولا ينكر أحد ما كانت الناس تعانيه فى الأرياف من أمر معالجة المرضى، فإنه كان يندر وجود طبيب بالجهات البحرية، وكان أمر المعالجة موكولا للحلاقين وعجائز النساء، أما الآن فقد صار بكل مديرية إسبتالية، وأجزاخانة، وأطباء، وتمرجية، وبكل قسم طبيب.

فمن ذلك الترتيب الحسن صفا الهواء من العفونات، التى كان يحملها من مناقع الماء والبرك والمعاطن، وتخلص أهل القرى من القاذورات، ونظفت أماكنهم، وأجروا بين مزارعهم ترعا وأنهارا، وغرسوا أشجارا، فما يزرع الآن بأرض مصر أكثر مما كان يزرع بها زمن البطالسة والرومانيين؛ فإن الأصناف المعتادة أخذت فى الزيادة، باتساع أسباب دائرة النموّ والفائدة: كالإكثار من الجداول والأنهار والجسور والمساقى، التى أوصلت مياه النيل إلى أطراف أراضى البلاد جميع فصول السنة، وكانت-قبل-لا تصلها إلا نادرا، وذلك كله ليس إلا من وجود المهندسين، وتفننهم فى رىّ ما كان يتعسر أو يتعذر ريه، فكان النيل وقت فيضانه لا يعم البلاد، مع أنه يغرق بعضها، ووقت النقصان تحرم منه.

فمن ينظر إلى حسن سير ولاتنا فى هذه الأزمان وسير الولاة السابقين، يجد أنا وصلنا الآن إلى درجة عظيمة فى الثروة، صرنا بها من ضمن الأمم المتمدنة؛ خصوصا بالتفات الخديو إسماعيل، فإنه بذل مجهوده فى توسيع دائرة المنافع العامة، وهذا بخلاف ما كانت عليه الحكام فى الأزمان الماضية، التى ذكرتها لك آنفا.