ففى الوسط كان يشقها شارع مستقيم، يمتد من باب من أبوابها إلى باب آخر، وفى وسط ذلك الشارع شارع آخر عمودى عليه، وأطول الاثنين كان فرسخا ونصفا، وعرضه مائة قدم. وباقى الحارات كان بعضه موازيا لأحد الاثنين، والبعض موازيا للآخر، فكان رسم المدينة أشبه شئ بالضامة أو الشطرنج، فأين هذا الشكل من شكلها التى اكتسبته فيما بعد؟ فتأمل كيف تغيرت هذه الاستقامة التى كانت فى الشوارع والحارات، وبدلت بغيرها معوجة فى كل ناحية، على حسب سير الزمان وتقلباته، من طور إلى طور، ومن حال إلى حال.
ويقال إن حاراتها استقامت حين كان الزمان مقبلا عليها، واعوّجت حين أدبر عنها، فنحمد الله تعالى ونشكره؛ حيث ردّ لها استقامة حالها، لأنها الآن متحلية بشوارع مستقيمة، وعمارات بهجة، وكل عام تزيد عمارتها وبهجتها من جلوس العزيز محمد على باشا-عليه سحائب الرحمة والرضوان-.
وما تم حسن منظرها وعلوّ شأنها، من أوّلها إلى آخرها، إلا زمن الخديوى إسماعيل باشا، فإنه لم يكتف بجعل استقامة الطرق دليلا على استقامة أحكامه، بل أدخل ذلك فى خليجها ومينتها.
وموقع هذه المدينة فيه فائدة عظيمة: هى مرور ريح الشمال فيها، زيادة على تلطيف حرارة الجوّ فى فصل الصيف.
وفى القرن الرابع من الميلاد، كانت من أحسن المدن وأبهجها، وقد وصفها (أشيل تايتوس) فى رحلته بقوله: قد دخلنا مدينة الإسكندرية بعد سيرنا فى البحر ثلاثة أيام، فمن حين دخولى من باب الشمس، تعجبت كل العجب من حسن منظرها، وكنت أرى وأنا سائر فى شوارعها-عن يمينى وشمالى-عمدا قائمة، فوقها قناطر على حافتى الشارع الموصل باب الشمس لباب القمر، لأن هذين النيرين هما مقدسا هذه المدينة. وفى وسط الشارع متسع، يوصل لجهات متفرّقة ما بين شوارع وحارات كثيرة، وكانت الناس تغدو وتروح فى الشارع الكبير والحارات، أشبه بقوم مهاجرين. وبعد قليل وصلت إلى الباب المسمى: باب