وإنما خرجنا فى هذا/المقام عما نحن بصدده من الكلام على ما يتعلق بإسكندرية، لأن عظم فوائد هذا الأمر حمل جواد الفكر على الجولان فى ميدانه، على أنه لا يخلو من المناسبة والارتباط بذلك، فإن مدينة إسكندرية كانت من قديم الزمان معتبرة بالنسبة للتجارات الجارية فى جميع بقاع الأرض، كالروح بالنسبة للحيوان، وهى الآن حائزة لهذا الاعتبار، وثروتها وعزها ينتجان ثروة الأقطار المصرية وتقدمها، فلا يبلغ القطر غاية ثروته إلا ببلوغ التجارة شأوها.
وفى الأزمان القديمة كانت طرق التجارة الواصلة إلى إسكندرية كثيرة، فكانت طرق التجارة العربية بحر القلزم، وطريق عيذاب، وطريق القلزم أو السويس، وكان النيل طريق التجارة السودانية، والواحات طريق التجارة السودانية والمغربية، وكانت التجارات الشامية، مع الملحق بها من تجارات الأقاليم الأخر، طريقها البحر الرومى وطريق الفرما، وتجارة السواحل الإفرنجية وجزائر البحر طريقها البحر الرومى أيضا.
وكان مرسى هذه التجارات مدينة الإسكندرية، فتجتمع بها وتتفرق منها، وهذا هو الذى أوجب ثروتها وكثرة أهلها.
فمتى وصلت الأقطار السودانية إلى درجة التمدن والأمن، تعظم تجارتها وتتسع، ويعود على الأقطار المصرية منها ما لا حصر له من الفوائد، لأن أهل تلك الجهات متى تحلوا بالمزايا الإنسانية، وتخلوا عن جلاليب الحالة الخشنة الوحشية، وذاقوا لذة ثمرات المعارف والعلوم، وانتشرت فيما بينهم موجبات تقدم البضائع والحرف، يكسبهم ذلك كله معرفة ثمرة الانضمام والاتحاد مع الغير، للتعاون فى الأعمال، واكتساب الفوائد الظاهرة والباطنة، فيحرصون على اجتناء ثمرة الألفة والتقارب، وتدب فيهم الطباع الحسنة والعوائد المألوفة، ويسعون فيما به تنظيم أحوالهم وتحسين هيآتهم، فحينئذ يكبون على خدمة أرضهم، فيكثر محصولها ويتنوع، وبما يكتسبونه من المعارف ربما يستكشفون المستور بها من المعادن