فإن قلت كيف يعقل أن هذه المعابد الجسيمة والمبانى المتقنة يجعلها المصريون لعبادة كلب أو قط أو قرد ونحوها، وكيف عملوا هذه الأعمال التى لم يسبقهم أحد بها ليسجدوا فيها لحيوان ويعلفونه كغيره من جنسه المسخر فى الأشغال.
قلت: الذى يظهر ويغلب على الظن أن مثل هذا الاعتقاد لم يكن عند هذه الأمة التى سبقت جميع الأمم فى المعارف والتمدن ومهدت طرق العلوم لجميع الناس، فالظاهر أن ذلك ألغاز منهم، وأنهم كانوا يلاحظون فى هذه الحيوانات صفات فيها إشارة لصفات الخالق ﷾، أو لسر من أسراره لا يطلع عليه إلا القليل من الناس، فيعظمونها لذلك.
والذى أشاع ذلك عن المصريين إنما هم اليونانيّون والرومانيون لعدم اطلاعهم على مراد المصريين العقلاء، ثم ازداد الأمر بعد دخول الديانة النصرانية فكسيت الحقائق حجب الخفاء، حتى ضاع ما كان يعنيه المصريون بما ألغزوه.
وقال بعض شارحى هيرودوط: إن أنطيفان الشّاعر الرومى من شعراء ما قبل الميلاد بأربعمائة سنة سخر فى كتابه من المصريين فى تقديسهم للحيوانات حتى سمك البحر، فإنهم كانوا يقدسون منه نوعا يسمى ليبيدوت، وهو الذى سماه الأب سيكار البنى، ونوعا يسمى اكسيرلكوس وسماه الأب سيكار العبيدى، وكذلك ثعبان الماء فقال أنطيفان:
إن المصريين قد فاقوا الناس فى كل شئ حتى سوّوا بين ثعبان الماء والآلهة، بل تجاوزوا حدّ التسوية إلى التفضيل فإنا نحصل خير الآله بمجرد الدعاء، وأما ثعبان الماء فلا نصل إلى الانتفاع به إلا بصرف كثير من الدراهم.