الليل خارجين من مصر البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أحد عن أحد؛ بل كل واحد مشغول بنفسه عن بنيه وأمه وأبيه، وخرج تلك الليلة معظم أهل مصر، البعض لبلاد الصعيد والأكثر لجهة الشرق، وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركة، ممتثلا للقضاء متوقعا للمكروه لعدم قدرته وقلة ما بيده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله.
وما يصرفه عليهم فى الغربة، والذى أزعج قلوب الناس زيادة أن فى عشاء تلك الليلة شاع أن الإفرنج عدوّا إلى بولاق وأحرقوها، وكذلك الجيزة وأولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء، وسبب تلك الإشاعة أن الغليونجية من عساكر مراد بيك الذين كانوا فى الغليون بمرساة إنبابة لما تحققوا الكسرة أضرموا النار فى الغليون، وكذلك مراد بيك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلى، فمشوا به قليلا ووقف لقلة الماء فى الطين، وكان به عدة وافرة من آلات الحرب والجبخانه فأمر بحرقه أيضا، فصعد لهيب النار من جهة الجيزة فظنوا أنهم أحرقوا البلدين، فزاد ما هم فيه من الفزع والروع والجزع، وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف وبعض المشايخ، وتحركت عزائم الناس للهرب واللحاق بهم، والحال أن الجميع لا يدرون أى جهة يسلكون، وفى أى طريق يذهبون، وبأى محل يستقرون فتلاحقوا وتسابقوا «وهم من كل حدب ينسلون» وبيع الحمار الأعرج والبغل الضعيف بأضعاف ثمنه، وخرج أكثرهم ماشيا أو حاملا على رأسه وزوجته حاملة طفلها، ومن قدر على مركوب أركب زوجته وبنته ومشى هو، وخرج غالب النساء ماشيات وأطفالهن على أكتافهن يبكين فى ظلمة الليل، واستمروا على ذلك طول ليلة الأحد وصبحها، وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع، فلما توسطوا الفلاة تلقتهم العرب والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم ولم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته، فكان ما أخذته العرب شيئا يفوق الحصر، فإن