صبيحة اليوم الثالث والعشرين، هذا هو اليوم المعهود المتعارف فى صدر من الدولة الجركسية وإلى زمننا هذا.
وينبغى لأمير الحاج أن لا يرحل من البركة ليلا، ففى ذلك من الفساد والمضار ما لا يخفى، فإنه قد يتسحب من الجمالة والغلمان ممن لا يكون على اعتدال للسفر، فيكون الليل ساترا ومعينا لهم على ذلك، فقد وقع من ذلك أن تسحب الجمّال بجماله ليلا ولم يشعر به الركاب وأصبحوا بأحمالهم بلا جمال، فعادوا إلى القاهرة، وقد يخشى على المودعين أيضا من التعرض لهم إذا رحل الركب ليلا وتركهم، فإن ذلك الموضع فى أوان الحج مقصود من أهل الأذى والفساد.
وبالجملة فالرحيل من البركة ليلا غير المعتاد، والتأخير بها إلى أن تشرق الشمس غير المعتاد أيضا، لئلا تصير جميع الرحلات المستقبلة مسبوقة إلى مناخ عقبة أيلة، خصوصا ما ذكرنا من سمن الجمال وثقل الحمل، ففيه ما لا يخفى من المشقة.
وأحسن ما يفعله أمير الحاج أن يعلن بالرحيل طلوع الفجر، ويستمر هو بالبركة إلى طلوع الشمس ليتناهى توجه الركب ورحيله على اعتدال، فإن قصّر أحد من الجماعة عن حمله، أو حصل لأحد من وفده ضرورة ساعده على إزالتها، ورحل هو حينئذ.
وبركة الحج محل وداع الأحباب، ومفارقة الأتراب، وأخذ الدموع فى الانسكاب، والقلوب فى الإضطراب، وتأكيد الوصية من المحب بالتعريف عن أخبار أحبابه ضمن الكتاب.
وما ألطف قول البدر بن يوسف الذهبى:
وبمهجتى المتحملون عشية … والرّكب بين تلازم وعناق
وحداتهم غنت حجازا بعدما … غنت وراء الركب فى عشاق
وللشهاب أحمد بن أبى حجلة:
ولما اعتنقنا للوداع عشية … على بركة الحجاج والدمع يسكب
فرحنا وقد جزنا البويب لأنه … إلى وصل من نهواه باب مجرب