للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

باريس التى هى التخت ومنبع الفتن فى كل زمن، وجعل يطوف فى شوارعها وأزقتها ويختلط بأهلها ويقرر ما يوافق طباعهم، ويتأمل فى الحوادث ويمتحن أحوالها من دون أن يدخل فيها، ثم حصل قيام جزيرة كورسكى التى هى وطنه ومسقط رأسه فتوجه إليها وترك أمر باريس، لأنه رأى أن الأحوال الوقتية كانت قريبة السكون، وكان عمره إذ ذاك ثلاثا وعشرين سنة.

وكان نحيف الجسم ضعيف البنية، فلم يبلغ درجة القائم مقام التى أراد رئيس الجيوش أن ينقله إليها لعدم بلوغه إلى سن الخمس والعشرين سنة المقررة لاستحقاق هذه الدرجة، فلم يحزن لذلك واكتفى برتية البكباشى على رتبة العسكر الأهلى، وكان الرئيس باولى يرغب إلحاق الجزيرة بالإنكليز، فخالفه نابليون ورغب فى إلحاقها بفرانسا، لما كان مجبولا عليه من الكراهة للإنكليز وغيرهم من الشماليين، حتى عادى معاداة واضحة من يميل إليها وصادر رأيه رأى الرئيس، ولحذقه وسداد آرائه كان سير المجلس تابعا لما يقرره ويرضاه، وقد تبعه جميع أقاربه وأهله فقوى حزبه، ولكن لكثرة الراغبين من الأهالى فى الإنكليز تحزب من فلاحيهم نحو الألفين، وهجموا على بيوت أقاربه ودوائرهم فأحرقوها ونهبوا أموالهم، فتخلص هو وأهله بركوب البحر والتوجه إلى مدينة مرسيليا، وجعل أمه وأخواته البنات الثلاثة فى قرية صغيرة قرب مرسيليا، وكن على غاية من الفقر والفاقة، لا يملكن شيئا من حطام الدنيا، تمنعهن رثاثة الملابس عن المطلة على الجيران، ويأكلن كباقى المهاجرين من أهل كرسكى من الكريز، ومن الحسنة المرتبة من قبل المجلس وكان نابليون خارجا عن الخدمة لا يملك شيئا، ويتردد على منزل إحدى الستات، ولكثرة صمته وعبوس وجهه كانت لا تميل إليه، وإذا وجد أحد أصحابه تعلق به ليقاسمه فى غدائه.

وفى تلك المدة كان المنفرد بالكلمة فى جميع المملكة روبسبير؛ لا