للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وينتشرون بالمدينة فيطوفون على بيوت الأعيان وأرباب المناصب والمظاهر، ويأخذون منهم البقاشيش يسمونها الجمعية، فما يجلس أحد ممن ذكر فى مجلسة، إلا واثنان أو ثلاثة منهم قبالة وجهه وبأيدهم العصى المفضضة، فيعطيهم القرشين أو الثلاثة أو الأكثر، فإذا ذهبوا جاءه خلافهم، وهكذا ولا يرون فى ذلك ثقلا ولا رذالة، بل يرونه من الواجبات اللازمة فلا يكفى أحد المقصودين خمسون قرشا أو أكثر يصرفها عليهم فى ذلك اليوم، وإذا تغيب واحد منهم وصادفوه مرة أخرى، طالبوه بما فاتهم.

فسعى المترجم عند الباشا بإبطال تلك العادة القبيحة، ومع ذلك فقد كان هو أول من فتح باب الزيادة فى محصل الضربخانة، حتى تنبه الباشا من وقتئذ لأهل الضربخانة وأوقع بهم ما أوقعه، وهو أيضا الذى أحدث المكس على اللبان والحناء والصمغ، فهو كما قيل:

ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها … كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

فقد صدق عليه ما قاله (الليث بن سعد) لما سأله الرشيد وقال له: يا أبا الحرث ما صلاح بلدكم؟ فقال له: أما صلاح أمر زراعتها وجدبها وخصبها فبالنيل، وأما صلاح أحكامها فمن رأس العين يأتى الكدر، فقال له: صدقت، ذكر ذلك (الحافظ بن حجر) فى «الرحمة الغيثية فى الترجمة الليثية»، وبالجملة فكان المترجم إلى الخير أقرب منه إلى الشر، مواظبا على الصلوات فى أوقاتها، ومطالعة الكتب والممارسة فى الفنون الدقيقة، واقتنى كتبا كثيرة فى الفنون، واستنباط الصنائع، حتى أنه صنع الجوخ الملون الذى يعمل ببلاد الإفرنج ويلبسه الناس للتجمل، وكان قد قل وجوده بمصر، فعمل عدة أنوال ومناسج غريبة الوضع، وأحضر نساجين فنسجوا الصوف بعد غزله فى مدأت حددها لهم طولا وعرضا، ثم يستلمه رجال أعدهم لتخميره وتلبيده بالقلى