وقد انفردت هذه المدينة بالملك فى الديار المصرية عدة أجيال، ولم يزل السياحون يأتون إليها ويطلعون على آثارها العجيبة، ويكتبون ما يتيسر لهم كتبه وينقلون ما تيسر نقله، وإلى الآن لم يستقصوا جميع أوصاف ما بها من العمائر التى تدهش العقول كما ستقف على بعضه، وذكر استرابون: أنه لم يبق من هذه المدينة فى مدة سياحته بالديار المصرية، إلاّ جزؤها المشغول الآن بالأقصر والكرنك، وأن جزأها الآخر المشغول الآن بمدينة (آبو) و (أبو الحجاج)، كان متخربا، وأطلق (اميروس) الشاعر المشهور على هذه المدينة اسم هيكاتوامبيل، وهى كلمة رومية معناها: المدينة التى لها مائة باب، فإنها كانت كذلك، واشتهر فى كلامه حتى انتقل ذكرها إلى الروم بل وجميع بقاع الأرض، واستنبط المؤرخون من شعره أن كل باب من أبواب تلك المدينة، كان يخرج منه مائتا محارب بعرباتهم وخيولهم، ومن ذلك استخرجوا مقدار القوة العسكرية التى كانت لفراعنة مصر فى هذه المدينة، وجعلوه فوق ما يمكن تصوّره للعقل، وأثبتوا للمدينة تبعا لذلك، اتساعا لا دليل لهم عليه ولا يتخيله عقل غيرهم، وبالبحث فى الآثار القديمة الموجودة هناك، لم يعثر أحد على شئ من هذه الأبواب أصلا، مع وجود ما يدل على جميع ما ذكره المؤرخون من المبانى وخلافها، وحقق بعضهم أن العسكر الذين كانوا مقيمين فى جهات مختلفة على النيل، كانوا يأتون فى أوقات معلومة إلى تلك المدينة، ليعرضوا على الملك قبل الخروج للحرب، وفى المواسم والمواكب، وكانوا يخرجون من أبواب كثيرة إلى الميدان الكبير الباقى أثره إلى الآن، فربما كان ذلك هو معنى ما أورده الشاعر فى كلامه، ومع ذلك فليس فى الأخبار القديمة، ما يدل على أنه كان ثم مدينة تشبه هذه المدينة فى العظم والفخامة والأبهة، لأن جسامة الآثار الباقية بها وكمال صنعتها، دالة على سطوة فراعنتها وثروة أهلها، وربما كان هذا مقويا لما ذكره بعض المؤرخين، من اتساع شهرتها