قطع العلائق بينها وبين اليونان والروم، لا يدل على قطعها بينها وبين الهند والعجم، على أن كتب أهالى هذه الديار، تنوه بوقعاتهم فى تلك البلاد، وقد حقق (تاسيت) المؤرخ أن هذه المدينة كانت المركز التى تجتمع فيه محصولات الهند، ثم تتفرق فى البلاد المجاورة كبلاد كنعان وغيرها، وما كانت تسلبه الفراعنة من الجهات التى كانت تحاربها وما يجبونه من الخراج المضروب على تلك الجهات، كان يخزن فى مخازنها، ويجعل قرابين للمعابد المقدسة، وما هو مسطور على جدران المبانى وباق إلى الآن شاهد بذلك، ويدل عليه أيضا أشعار أميروس، ومن تأمل الوضع الجغرافى لهذا الإقليم لا يشك فى ذلك الوضع بين البحرين الرومى والهندى، وجريان نهر النيل فى وسطه، وهو نهر عظيم صالح للملاحة فضلا عن الرى والخصوبة، وهذا هو الذى حمل الإسكندر على إنشائه مدينة الإسكندرية فى الموضع الذى هى فيه الآن، فصارت مركزا لتجارة العالم بأسره، لتلك الأسباب مع ما جدده البطالسة بها من طرق تسهيل أمر التجارة وحفظها، كالخليج الذى حفروه من النيل إلى القلزم، وما فتحوه من الطرق فى الصحارى الشرقية التى بين النيل وعيذاب، وبقيت مسلوكة إلى عهد قريب منا.
ومن ذاك يؤخذ أن المصريين اشتغلوا بالتجارة، وأوسعوا دوائرها وأعملوا فى ذلك كل حيلة، حتى اكتسبوا الفخر والسعادة التى اشتهروا بها، ولم يمنعهم تغلب الفرس على أرضهم، عن الاشتغال بذلك، بل فى زمن (دارابن هستاسب)، أوسعوا دوائر التجارة، وقووا أسبابها بكثرة السفن فى البحر، ولم يمهل هذا الملك مع تجبره الإحتفال بأمر الخليج الذى بين مجرى النيل والقلزم، بل اهتم/به غاية الإهتمام، وفى مدة (افريس) آخر الفراعنة، اتسعت التجارة وبلغت أقصى غايتها، وقبله ابريس وينكوس احتفلا بشأنها أيضا غاية الإحتفال، حتى كانت مدينة منف مركز عموم التجارة قبل الإسكندرية.