الهدايا والقرابين التى كانت تقدم إليهم، وأحوال مدينة رومة التى هى الآن مركز الديانة العيسوية، تقرب من أحوال هذه المدينة التى كانت عليها فى الأزمان القديمة، فإن كنائس رومة ومعابدها، وما بها من السرايات والقصور التى للطائفة المتدينة، هو نتيجة الهدايا التى تهدى إليهم من جميع بلاد النصرانية، فمدينة طيبة أيام كانت مركزا للديانة فى جميع بقاع الأرض كانت كذلك بل أعظم، وكذا من تأمل مدينة لوندرة وتبع سيرها فى كل مدة ورأى أنها ازدادت سعة وبهجة تبعا لتقدم التجارة، إنما يقيسها بمدينة طيبة وقت أن كانت مركزا لجميع تجارة الدنيا، بل كان تقدم طيبة أكثر بأضعاف كثيرة.
وإذا نظرت لكون هذه المدينة كانت مركزا للديانة والحكومة والتجارة معا دون جميع البلاد، عادلتها برومة ولوندرة معا، ونسبتها إلى درجة عالية، ربما يشك كثير من الناس فى صحتها، فإن قلت حيث أنها كانت بالحالة التى ذكرتها كيف امتدت إليها أيدى الخراب وتقطعت بها الأسباب، وما الموجبات لتدميرها وتمزيق أديم أبنيتها وإزالة رونقها ومحاسنها، وتشتيت أهاليها، وتهدم مساكنها، حتى صارت أدبر من أمس وكأنها لم تغن بالأمس، وما الذى أسرع بتخريب سراياتها المشيدة، وحصونها المنيعة الشديدة، وقصورها العالية، ومعابدها الفاخرة الزاهية، وأين ذهبت سكانها وكيف زال بأسها وسلطانها، وما الذى جردها عن ثياب عزها ومنعتها، وألبسها بعد ثياب العمران جلابيب الخراب، وجعل منازلها الفاخرة تلال تراب مفروشة بأعمدة ضخمة، وقطع أبنية وصخور بعضها غير ملتئم، والملتئم منها لا يدل على ما كانت عليه فى الأصل ولا ما كان الغرض منها، فهل نزل عليها آفة سماوية أهلكتها، أو زلزلت بها الأرض فهدمتها، أو خسف بها وبأهلها أجمعين، فصارت نسيا منسيا فى العالمين.