قلنا كل ذلك يخطر بالبال، ولا يدرى المتأمل فى هذا الشأن ماذا يقال، ولكن إذا تفكر الإنسان فيما مضى من الأمم المتبربرة، وما كان لهم من السطوة على غيرهم، والوقائع التى أعلمتنا التواريخ ببعضها، عرف الجواب بدون ارتياب، فإن من المعلوم أن أرض مصر واد صغير خصب، منحصر بين صحار، وأن الأقوام المعروفين بالبدو، والقاطنين فى أطرافها من الجنوب والشرق والغرب، لا بد أنهم سطوا على هذه الديار كثيرا فى الأزمان الخالية، فأعقب ذلك خراب تلك المدينة العظيمة، وغيرها من سائر المدن التى بجوانبها، على أن هناك بعض أدلة تفيد الجزم بأن ما حصل من الخراب فى أغلب مدن الديار المصرية، ليس إلا من طوائف العرب المستوطنين أرض العرب، هجموا على هذه الديار فخربوا ما بها من العمران، وأكثروا فيها الفساد الباقى أثره إلى الآن/، كما أفاد ذلك المؤرخ (مانيتون) المصرى، فإنه ذكر أن هؤلاء العرب حصل منهم هجوم على هذه الديار، وإن كان تجدد بعد طرد هؤلاء الأقوام بعض ما خربوه من العمارات مدة سيزوستريس وغيره من الفراعنة، والظاهر أن الخراب الذى حصل منهم كان جسيما حتى بقى بعضه وأغلبه إلى الآن.
ومع ظهور مدينة منف وصيرورتها تختا ومقرا للفراعنة، لم تنحط هذه المدينة عن درجتها بالكلية، لأنها كانت فى ذلك الوقت مركزا للديانة، ومقصدا للملوك وغيرهم، يحجون إليها، إنما حصل فيها من غير شك بعض نقص فى قوتها وأبهتها، بسبب ظهور مدينة منف، وتحول أنواع التجارة إليها، هذا وقد حصل من الفرس الإغارة عليها أيضا مدة استيلائهم على الديار المصرية بعد وقعة واحدة، وذلك أنهم دخلوا مدينة منف وحرقوا معابدها وأهانوا ملكها وأهاليها وكهنتها، ونهبوا حلى المعابد، فجردوها من أنواع الفضة والجواهر، بعد أن هدموا ما هدموه وحرقوا ما حرقوه منها، وفعلوا مثل تلك الفعال بهذه المدينة وغيرها، وذلك قبل المسيح بخمسمائة وسبعة وخمسين سنة.