ثم إن ما كان يعمل للعجل أبيس من المواسم والولائم والقرابين التى كان يتقرب بها إليه، وموافقة وقت شهرته فى الديار المصرية لوقت دخول العبرانيين فيها، مع زيارة قياصرة الروم لمعبده، وشغفهم برؤيته، وغارات كمبشاش ملك الفرس، والأكاذيب التى نشرها الرومانيون والقسيسون، والفتن التى حصلت بينهم، عند ظهور الديانة العيسوية، هى التى نشأ عنها ضياع الحقائق التى كانت للمصريين، وصارت هى أساس اعتقاداتهم الدينية، وبدخول الغرباء وانحطاط قدر أهل هذه الديار، أخذت الأكاذيب فى الشهرة، والحقائق فى الإنحطاط والإضمحلال حتى محيت العلوم والفنون المصرية، وقام مقامها أوهام مخترعة ملفقة وأكاذيب مختلقة.
ويقال إنه كان بهذه المدينة كتبخانة عظيمة أخذ منها أميروس الشاعر جميع ما اشتملت عليه قصائده من الحوادث وخلافها.
وذكر استرابون أنه طالع فى كتب الكهنة التى بها، فلا بد أنها كانت فى محل يطالع فيه، وهو يؤيد صحة ذلك، ولا عبرة بإنكار من أنكره؛ لأنه يبعد كل البعد، وجود مدينة بقيت مدة قرون متوالية تحت حكومة متسعة - من ضمنها بلاد النوبة والحبشة والشام وغيرها - خالية من محل للكتب الموروثة عن السلف فى العلوم النافعة والحكم المفيدة، كيف؟! وقد كانت أشهر بلاد الدنيا فى ذلك الوقت.
ومما يؤيد ذلك أيضا ما قاله الشيخ عبد اللطيف البغدادى فى رحلته حين وفد إلى مصر، ولنذكره لك برمته لتعرف منه كيف كان حال هذه المدينة فى الأيام الخالية، وإن اعتراها فى هذه الأيام من الحوادث ما محا آثارها، خصوصا تسلط الفلاحين على إحراق ما عثروا عليه من حجارتها، وجعله جيرا، والأمراء والحكام على نقل العمد والحجارة لبناء الفسطاط حتى ضاعت جميع آثارها.