وجعل يسأل نفسه عن قدر ما هلك فيه من الأموال، والأنفس، والزمن الذى استغرقه عمله، خصوصا إذا اطلع على أن الحجر الواحد من أحجاره مائتا قدم مكعب، وأقل ما يكون وزنه ثلاثون ألف كيلو جرام عبارة عن ستمائة وستة وستين قنطارا وثلثى قنطار مصرى. ولا شك أنه يشتمل على ألوف منها. وإذا فكر فى أنه قد مضى عليه ستة آلاف سنة، وهو قائم بمكانه، شاهد على تعاقب الأمم والأجيال والحوادث، سأل كم مضى أيضا من الأزمان قبل بنائه، وما نسبة جميع ذلك إلى ما بقى، فعند ذلك لا يرد جوابا. قال بعضهم:
ألست ترى الأهرام دام بناؤها … ويفنى لدينا العالم الانس والجن
كأن رحى الأفلاك أكوارها على … قواعدها الأهرام والعالم الطحن
فإذا انتقل فكره إلى الإنسان وأعماله، ونظر الى صغر جسمه بالنسبة إلى أعماله الجسيمة، وقصر عمره بالنسبة الى القرون التى شهد هذا البناء على بعضها، رأى أن الإنسان ليس بشئ، وأن ما ينشأ عنه من الأعمال والحوادث الكبيرة والصغيرة لم يكن عن مجرد مادته الجسمانية، بل إنما ذلك ناشئ عما أودع فيه من الروح التى هى من أمر الله تعالى، وسر من أسراره التى استأثر بها عن خلقه، وما الجسم لها إلا شبح تقوم به لتتصرف فيما تريد من الأعمال.
وحينئذ فالأهرام من الأعمال التى تجلب للمتأمل فيها الإعتبار بالماضين، وتحمله على عمل الآثار الحسنة التى يحسن بها ذكره على الدوام، وبها يستدل على أن الأمة المصرية أقوى أمة تتحمل المشاق والصبر على الأعمال الصعبة، وأن من يوجه قوتها نحو ثروتها تنال على يديه أوج السعادة حتى تستوجب له الذكر الحسن فى جميع الممالك.
قال المقريزى: ووجدت بخط الشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيى أبى حجلة التلمسانى: أنشدنى القاضى فخر الدين عبد الوهاب المصرى لنفسه فى الأهرام سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأجاد: